ما الذي يعنيه أن يعيد فوكو قراءة الأنوار عند كانط؟! هل يعني هذا حوارًا بين مؤسس علم الميتافيزيقيا، ومدمر الميتافيزيقيا؟! كيف يمكن لنا أن نفكر مع كانط وفوكو في الأنوار، هذا التنوير الذي يعتبره فوكو لا يزال يحث الفلاسفة على الإجابة عليه حتى وهم بعد قرنين من زمان كانط. يقيم كانط التفكير العقلاني على الحرية، تلك الحرية التي يعتبرها الأساس في التنوير العقلاني، للخروج من ربقة السلطة الدينية والسياسية، وتعتمد هذه العقلانية على «خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه، قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف من الغير» إلى «استعمال عقلك أنت» الذي يعتبره شعار الأنوار، إلا أن كانط يستبدل هذه السلطة بسلطة أخرى خاصة تنهل من قوانين «المجتمع المدني العام»، وتقوم على الخدمة المجتمعية والتي أسس لها في العقل العملي المبني على الالتزام الأخلاقي الترنسندنتالي، وبهذا فإن الأنوار الكانطية تستلهم التفكير العقلاني من العقل المحض، وهذا إذا أردنا دمج (مالأنوار) في (نقد العقل العملي). ولعل مشروع كانط النقدي للعقل النظري والعقل العملي الذي اعتمدت عليه الفلسفة أمة من الزمن يمهد لنا هذا التنوير الذي يرتهن بالعقل الترنسندنتالي/ الميتافيزيقي، وبذا فإن التنوير الكانطي هنا يحمل (علم الميتافيزيقيا) الذي انتقده فوكو، مع اتفاقه على أن سؤال الأنوار لا يزال يعمل في الهم الفلسفي المعاصر في القرن العشرين منذ القرن الثامن عشر الذي انشغل فيه كانط بالتنوير. وهنا يمكن لنا أن نلحظ تفكيكًا للعقل الكانطي المؤسسي تحت مشروع فوكو التدميري للسلطة، حتى وإن كان العقل متحررًا عند كانط فإنه عند فوكو لا يُعتبر في تحرره الكوني بل تحرر مشروط بسلطة مغايرة، وكأن فوكو هنا يدخل في سلسلة الحرية التي هي أس التفلسف ضمن نقده لحرية كانط الأنوارية، فهو تنوير واحد لكن منظورين وفي فلسفتين: فلسفة قامت على تأسيس الحداثة بالتنوير العقلاني الترنسندنتالي الميتافيزيقي، وتنوير يمتح من بقايا الحداثة أو لنقل -وإن لم يرغب فوكو بهذا- من ما بعد الحداثة، الذي يقيمه فوكو على نقد «جينيالوجي الغاية، واركيولوجي المنهج»، تجريبي يوازي التراث التاريخي البشري ليحلله ويستقي منه ملامح التنوير (اللاميتافيزيقية). وهذا لا يعني الجمع بين الأنوار والنزعة الإنسانية لأنه جمع «غير صحيح تاريخيًا» -بحسب فوكو-، إذ إن النزعة الإنسانية أخذت من الدين والعلم والسياسة على الأقل منذ القرن السابع عشر، بينما يريد هو أن ينظر إليها بمنظور كوني، ومخالف لمنظور كانط، وهنا تتبدل حتى الأنسنة التي قامت إزاء تأسيس أنوار كانط، ليحل مكانها ذلك الحفر المعرفي الذي يرتضيه فوكو. ونحن هنا إزاء فهم مغاير لفهم الحداثة عند فوكو إذ إنها ليست حقبة تاريخية جاءت بعد القرن الثامن عشر بل هي موقف من فكر ما، من فلسفة ما، لا ترتهن للتحقيب التاريخي بقدر ما ترتهن للخروج من الانكفاء الميتافيزيقي الذي -أعتبره- أحد أهم مشاريع الفلسفة في القرن العشرين، منذ نيتشه الذي مهّد لها، حتى هايدجر ودريدا وفوكو، وبالتالي يمكن أن ننعته ب(التنوير اللاميتافيزيقي)، الذي أعقب أمة من زمن الفلسفة المتعالية. ** **