لا أظن أن جليساً في هذا الزمان عند أكثر الناس، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، غنيهم وفقيرهم، قد بلغ ما بلغه الهاتف المتنقل بما احتواه من تطبيقات ذكية ونحوها، حتى أضحى في كثير من الأحيان جليساً ملاصقاً وربما كان مزعجاً، وصاحباً مؤذياً، حتى إنه ليستحيى من تكرار التنبيه على من في المجلس أن ينتبه للحديث الذي يلقى، فربما أصبح الهاتف في يد صاحبه ضيفاً ثقيلاً، «وإنما تطيب المجالسة بخفة الجلساء». كم كان قاطعاً لحلو المسامرة، وحسن الانتباه، وتسلسل الأفكار والمعاني! قيل للأحنف بن قيس- رحمه الله-: ما ألذ المجالس؟ قال: ما سافر فيه البصر، وأبدع فيه البدن، وكثرت فيه الفائدة، وعدم فيه الثقيل. لا أدري كم وقع من حادث نتج عنه وفاة أوعاهة أو خسارة مال عام أو خاص بسبب هذا الجليس؟! مع أنه قد فُرضتْ عقوبات على المنشغل به أثناء قيادته؛ لكف الجليس الصامت الناطق المُشْغِل لقائد السيارة! كم أزعج رنين هذا الصاحب من مسلم في أعظم صِلَاتِه بربه «صَلاته»! كما أني لا أدري كم قُضِيتْ به من حوائج، وتمت عن طريقه من صِلات.. وليس المقصود تعداد منافعه أو إحصاء مضاره، بل الهدف التنبيه في حمل النفس على الحزم مع هذا الجليس! فهلا أبعدتَ هذا الصاحب قليلاً، فجعلت لك وقتاً لا يشاركك فيه مهما كان نفعه عندك! هلَّا دعوتَ الله أن يجعله جليساً نافعاً مفيداً؟ حتى لا تبتلى بمن يسرق وقتك. هل أدركتَ كم مضى من عمرك مع هذا الجليس؟ ألم تدرك أثره على صحتك وعينك؟ بل وعلى روحك ونفسك؟ كم من الأخبار اليومية ترد عن طريق صاحبك؟ وكثير منها يورث همَّاً، ويجلب غماً. كم من مقاطع مزعجة حساً ومعنى ترد على قلبك؟ فربما ولَّدتْ حزناً وألماً. هل أضحى هذا الصاحب، سارقاً لساعات من يومك؟ ومستنزفاً لصحتك شيئاً فشيئاً؟ هل بلغ هذا الصاحب منزلة كبرى فتصبح وتمسي مضحياً بوقتك وجهدك وشيئاً من روحك وسعادتك لأجله؟! وأنا أكتب أحرف هذا المقال وردت عليَّ رسائل شتى نقلها هذا الصاحب! فكم من الوقت تستنزفه تلك الرسائل لقراءتها فضلاً عمن يطلب جواباً على رسالته؟! بعضنا أسهل ما عليه أن يزج إليك بكومة من الرسائل، والمقاطع، حتى يتلبد الإحساس معها فلا تتطلع على شيء من رسائله! هذه الرسائل فكيف ببقية التطبيقات ومحركات البحث... لا أطالب بالمثالية لكن أقول: ما أحوجنا لضبط أوقاتنا، والحزم على النفس في ترتيب الأولويات، والبدء بالمهمات، مع جعل فترة للاستجمام، فقد بلغني عن الشيخ الأمين الشنقيطي- رحمه الله- أنه يجهد نفسه أيام الأسبوع فيما ينفع الأمة من درس وتأليف وتعليم وغيرها، وفي نهاية أسبوعه يجعل وقتاً للتخفف من الأعباء التي كلَّف بها نفسه، ثم يعود إلى الاجتهاد مرة أخرى. ما أحوجنا إلى دعاء الله بأن يسخر جلساءنا صالحين نغنم مجالسهم، وما أحوجنا كذلك إلى أن نتعوذ به سبحانه من جلساء يسرقون الأوقات، ويهدرون أنفس ما على المرء حفظه! أخرج البخاري في صحيحه أن علقمة- رحمه الله- قال: قدمت الشام فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فأتيتُ قوماً فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء، فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسَّرك لي..