ليس المقصود بالسوق الحرة هو عدم تحديد الأسعار. فتحديد الأسعار أمر مستحيل التطبيق إلا لفترات قصيرة ثم تظهر السوق السوداء والجريمة. ولن يستمر المنتج في الإنتاج إذا لم يستطع تغطية التكلفة. وأما السلع الموجودة أصلاً ولا تفنى، -فعند تحديد أسعارها- ستصاب السوق الرسمية بالشلل فلا بيع ولا شراء، وتزدهر السوق السوداء وترتفع فيها الأسعار، ويتوقف نمو الاقتصاد أو إنتاج السلعة المحدد سعرها. فمثلاً، لو حددت دبي أسعار الإيجارات قديماً عند ارتفاعها المفاجئ، لما استثمر المستثمرون في بناء دبي ولارتفعت أسعار العقارات أكثر وأكثر لقلة العرض، ولازدهرت سوق الإيجار السوداء. إنما المقصود عندما يُقال يجب على الحكومات أن لا تقوم بتعطيل السوق الحر، أي يجب أن لا تقوم بالتأثير على الأسعار عن طريق التأثير على العرض أو الطلب أو كلاهما بتدخل خارجي، كدعم -معونات- أو عكسه -ضرائب- ينتج عنه تغير بالأسعار نتيجة تغيير العرض أو الطلب. وهذا ما فعلته الاشتراكية وتفعله الدول البترولية غالباً، وهو ما يسمى التخطيط المركزي للاقتصاد. وهذا وإن كان من الممكن استمراره لفترة طويلة إلا أنه مدمر أو ويصيب الاقتصاد بالشلل، والتجربة أثبتت هذا. والرسول -عليه السلام- أقر السوق الحر قبل آدم سميث بمئات السنين وذلك عندما رفض تحديد الأسعار وقال «إن المسعر هو الله» وقبل الخوض في الحديث عن السوق الحر، فإنه يجب التنبيه إلى أن المقصود هنا هو سوق الصناعات والخدمات والسلع الحقيقية، وليس السوق المالية والنقدية. فالسوقان على عكس بعضهما في هذا الباب. والدراسات الأكاديمية شرحت بإسهاب تخصصي وعلمي أسباب ظاهرة حتمية التدخل الحكومي فيها لصلاح السوق المالية المخالفة لقانون طبيعة السوق، وهذا ليس محله هنا، فعودة إلى المنافسة والسوق الحرة. «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون». فالتنافس فطرة بشرية فطر الله الخلق عليها، لتنمو الحياة وتستمر. والتنافس نوعان، بنّاء وهدّام. ودور الحكومات في السياسة الاقتصادية سن السياسات في دعم التنافس الحر البناء الذي يقود السوق إلى أقرب حالة ممكنة من السوق التنافسية المثلى، ومنع التنافس الهدام الذي يمنع من ظهور المنافسين. والسوق التنافسية هي السوق التي لا يرتفع فيها سعر السلعة عن تكلفة إنتاجها ولا ينقص. وهذا عادة لا يمكن تحقيقه إلا في السلع الاستهلاكية البسيطة والصناعات الخفيفة. والحد الجامع للسلع التنافسية المحضة هو كونها متشابهة جداً ومنتجوها كثيرون إلى حد لا يمكن تواطؤهم في الاتفاق على رفع الأسعار، كسوق الماشية والخضار. وما عدا ذلك فكل السلع فيها نوع من القوة الاحتكارية التي يمكنها من رفع السعر فوق سعر التكلفة إذا تميزت عن شبيهاتها، كالسيارات والمطاعم ونحوهما. ومهمة الحكومة هنا في حماية المنافسة: هو تسهيل وجود السلع البديلة المنافسة التي تضعف من احتكارية هذه السلع وليس تحديد الأسعار. فمثلاً لا يصلح أن تحدد الحكومة سعراً لنوع سيارة ما، ولكن تسهل إيجاد أنواع سيارات أخرى بديلة في سوق السيارات. وهناك بعض السلع المتشابهة تماماً، ولكن يصعب إنتاجها فيقل منتجوها، كالحديد مثلاً. فهنا دور الحكومة أن تراقب الأسعار لضمان عدم وجود تواطؤ بين المنتجين لرفع الأسعار بتخفيض طاقتهم الإنتاجية، لا تحديد أسعار الحديد. وهناك سلع احتكارية خلقة، كالكهرباء وهذه مثلاً تتدخل الدولة للمحافظة على احتكاريتها الطبيعية، والحفاظ على عدم منافستها وتعمل من جهة أخرى على ضبط تسعيرها. والحرص على توفير المعلومات للمستهلك، -كأسعار السلع المنافسة، ودرجات الجودة وكل ما يؤثر على السعر- هي خطوة ضرورية تأتي بعد خطوة حماية المنافسة، والحديث يطول، ومقام المقال يقصر عنه.