أطلق صندوق النقد الدولي تحذيراً لدول الخليج، بأن مواردها المالية ستجف بحلول العام 2034م إذا لم تتبنَ إصلاحات اقتصادية واسعة، ومعروف أن أغلب نصائح الصندوق لدول العالم تتركز بخفض أي برامج دعم ورفع أو إقرار ضرائب على الأفراد والمجتمع عموماً، أي أنها وصفة ثابتة يقدمها للجميع دون النظر باختلاف وضع أي دولة عن أخرى. وللعلم فإن الإصلاحات الاقتصادية هدف تسعى له كل الدول وتضع ما يناسبها وفق جدول زمني ملائم حتى يعطي نتائج جيدة دون إرهاق للاقتصاد والمجتمع خصوصاً عندما يكون وضع الدولة مالياً واقتصادياً مريحًا لإجراء أي إصلاحات وتطوير للأنشطة والقطاعات الاقتصادية. وبالعودة للتقرير الذي افترض أن النفقات ستزيد والإيرادات غير النفطية ستبقى محدودة، وتقلبات أسعار النفط مستمرة ولا تعطي استقراراً للموارد العامة لدول الخليج، أي أن العجوزات المالية ستستمر لسنوات طويلة بحسب افتراض قراءة الصندوق، ويضاف إلى ذلك تحذيره من أن النفط ستبلغ ذروة الطلب عليه في العام 2040م على أبعد تقدير «إذا تدعمت الجهود التنظيمية للبيئة وترشيد استهلاك الطاقة»، مع التذكير بأن الصندوق قال إن دول الخليج شرعت بتبني إصلاحات اقتصادية لتنويع مصادر الدخل والاقتصاد لتقليص دور النفط بالموارد العامة، وأنها على الطريق الصحيح لكنه طالب بتسريع خطوات إصلاح الاقتصاد والمالية العامة، معتبراً أن مشاريع تنويع الاقتصاد غير كافية ولابد من خفض نفقات الدول وإقرار أنظمة مالية. وبعيداً عن تعميم الصندوق بتحذيره لدول الخليج مجتمعة، فإن المملكة العربية السعودية بدأت خطة طموحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تتمثل برؤية 2030م التي اعتمدت في عام 2016م، ومن أبرز برامجها التوازن المالي الذي وضع له جدول زمني ليطبق كاملاً كتقدير أولي في عام 2019م، وتم تمديده للعام 2023م إضافة إلى برامج تدعم استدامة النمو الاقتصادي. وهنا لابد من التذكير بتقرير لصندوق النقد الدولي نشره العام 2017م واعده فريق من الصندوق برئاسة تيم كالن الذين زاروا المملكة، وكان أبرز ما ذكروه في التقرير إشادتهم بالإصلاحات الاقتصادية وبالوقت نفسه ذكروا حرفياً بأن «هدف الميزانية المتوازنة لا يتعين تحقيقه بالضرورة في عام 2019م حسبما ورد في برنامج تحقيق التوازن المالي، نظراً لمركز الأصول المالية القوي في المملكة وانخفاض مديونيتها. فإتباع منهج أكثر تدرجاً في الضبط المالي يحقق توازن الميزانية بعد الوقت المحدد في البرنامج ببضع سنوات»، وهذا يناقض تقريرهم التحذيري الذي أطلقوه حالياً عندما يشملون المملكة مع باقي دول الخليج، وذلك لأنهم نصحوا بالتدرج لمدد زمنية أطول لكي يتم استيعاب إصلاح أسعار الطاقة وغيرها من الإجراءات، فهم يرون أن المملكة «تتمتع بمركز قوي بالأصول المالية وانخفاض مديونيتها. فإتباع منهج أكثر تدرجاً في الضبط المالي يحقق توازن الميزانية بعد الوقت المحدد في البرنامج ببضع سنوات»، ورأى تيم كالن وقتها «أن ذلك سيكون أقل تأثيراً على النمو في المدى القريب، وسيتيح الحفاظ على هوامش الأمان في المالية العامة ما يساعد على إدارة المخاطر المستقبلية». وهذا ما يعني أن خطوات المملكة تسير بالاتجاه الصحيح، فحتى تقديرات أسعار النفط لم يكن مبالغ فيها في تقدير إيرادات الميزانية رغم أنه تخطى حاجز 80 دولارًا العام 2018م، وبالمجمل كان ضمن التوقعات كمتوسط سعر بين 60 إلى 70 دولارًا طيلة العامين أو الثلاثة الماضية. إن طرح هذا التحذير في هذا التوقيت يطرح تساؤلات عديدة عن سببه وما يرمي إليه، فالخطوات الإصلاحية بدأت فعلياً في أغلب دول الخليج وعلى رأسها السعودية، فما المبرر لهذا التحذير الذي يُطرح في وقت يواجه الاقتصاد العالمي تحديات عديدة لتحقيق معدل نمو مقبول وإبعاد شبح الركود عنه، فكيف يمكن اتخاذ أي إجراءات قد تتسبب بخفض معدلات النمو الاقتصادي غير النفطي تحديداً خصوصاً بعد جملة برامج التحفيز التي أقرت بالموازنات العامة بالسنوات الثلاث الأخيرة مع العام الحالي، فالعالم يواجه مخاطر عديدة للتو تجاوز أحدها وهي الحرب التجارية بين أميركا والصين بعد توقيع اتفاقية إنهاء النزاع بمرحلته الأولى، بينما ظهر تحدٍ جديد وهو انتشار فيروس كورونا بالصين وبداية المخاوف من تأثيره على النمو الاقتصادي العالمي، يضاف إلى ذلك الأحداث الملتهبة الجيوسياسية بالشرق الأوسط في العراق واليمن وليبيا وغيرها من الدول التي تبحث عن الاستقرار بعد سنوات من الخراب والفوضى. فالنمو الاقتصادي هو ما يجب الحفاظ عليه ودعمه وفق ما تقتضيه الظروف وتسمح به الإمكانات، فلكل دولة خصوصيتها وتنظر لتحدياتها بما يجعلها تتجاوزها وتحولها لمكاسب حقيقية. دول الخليج تجاوزت أزمات اقتصادية عالمية عديدة آخرها الأزمة المالية العالمية عام 2008م، وبمعزل عن تقرير وتحذير الصندوق، فالإصلاح الاقتصادي بدأ قبل تحذيرهم، وإمكانات الاقتصاد الوطني كبيرة جدًا، ولا تقتصر الإصلاحات على رسوم أو ضرائب، فهي جزء من تنويع مصادر الدخل، لكن هناك برامج تعمل الدولة عليها بتنشيط قطاعات اقتصادية كانت خاملة كالسياحة والترفيه وكذلك التعدين والصناعات التعدينية والخدمات اللوجستية والبتروكيماويات وقطاع التطوير العقاري وغيرها من برامج الخصخصة ورفع نسبة المحتوى المحلي، فهي التي ستخفض من نفقات الموازنة العامة وترفع من مداخيلها وتنقل التنفيذ والتشغيل وضخ الاستثمارات للقطاع الخاص مما يوسع من حجم توليد فرص العمل وخفض البطالة على مدى السنوات القادمة.