كان لقائي الأول برئيس تحرير الجزيرة الأستاذ خالد المالك وأنا طالب في السنة الرابعة بكلية اللغة العربية وبعد أن نشر لي ملحق الثلاثاء الأسبوعي الأدبي عددا من القصائد والمقالات الأدبية، وكان لدي تطلع مبكر للعمل في الصحافة الأدبية، فجمعت شجاعة فتى في مطلع العشرينيات من عمره وطرقت باب مكتبه طرقا خفيفا بعد أن سألت عنه سودانيا لطيفا مكلفا بعمل القهوة والشاي له، وكان لتوه خارجا من مكتب الأستاذ خالد، فأجابني على الفور: خش يا زول ما عندو أحد. لم يكن يعرفني إلا من الاسم حين قلت له أنا فلان، فحضر الملحق الأدبي فورا بين ناظريه واستعاد ما نشرت خلال سنة. كان الأستاذ خالد وقتها في ريعان شبابه، ممشوق القامة نحيفا ذا شارب كثيف وسالفين طويلين وعناية لا تخطئها العين بأناقته وحسن هندامه، ولم يطل الحديث عن رغبتي فكأنه سبقني إلى ما كنت أود البوح به فعرض علي فكرة العمل، وقال: عليك التواصل مع الأستاذ حمد القاضي. الحق أن هذا اللقاء العفوي حبب إلي العمل في الصحيفة؛ فبعد أن كنت أزورها لأقدم ما لدي في مظروف للمشرف على الملحق الأدبي أصبحت أدخل وشعور عميق يسكنني بأنني من أهل البيت؛ فأسلم على زميل وأجلس بعض الوقت في مكتب زميل آخر، ثم صار لي طاولة في مكتب المشرف على الملحق، وأصبحت فيما بعد تسلم لي المقالات والمواد الأدبية لفرزها وقراءتها وتسليمها للمشرف، ثم اقترحت زاوية نقدية حادة باسم (وخزات ثقافية) أثارت ردودا ممن توجهت الزاوية لهم بالنقد، وهكذا تكاثف العمل الصحفي لاحقا فمنحت يوما من الأسبوع في العمود الرئيسي للجريدة (هوامش صحفية) الذي لا يكتب فيه إلا المشهورون من صحافيي الجزيرة، ثم أسهمت بمقال أسبوعي بصفحة الرأي، وبعد سنتين منحني رئيس التحرير ثقته فأسند إلي الإشراف على الملحق الأدبي بجريدة (المسائية) الوليدة. كانت الكتابة في (الجزيرة) لنا أبناء تلك المرحلة الصحافية رسالة وطنية تنموية وتنويرية بالقدر الذي تسمح به معايير النشر آنذاك، وكانت معاناتنا الأولى كتابا ومحررين من رئيس التحرير الذي يتحمل الصدمات وردود الفعل على أي رأي كان يعد شاطحا أو اجتهاداً مندفعاً بحماسة الشباب فيدافع عن الكاتب أو المحرر ثم يحاسبه بطريقته الخاصة التي لا تزيد على كلمات متدافعة عالية الصوت لا تكاد تتوقف إلا بتعهد شفوي ألا يعود لمثل ما حدث! وكانت آراء الجمهور المختلفة مع الكاتب تأتي إما برسالة قد تنشر إن كانت غير حادة في صفحة (عزيزتي الجزيرة) أو بزيارة إلى مبنى الجريدة ونقاش مباشر مع الكاتب. اختلفت مع الأستاذ نسيم الصمادي واشتدت المعركة المقالية بيننا حول تجربة شاعر لبناني يكتب القصيدة الحديثة تم اغتياله في الحرب الأهلية ووقتها كنت أشرف على الملحق الأدبي بالمسائية وحدثت بيننا جفوة؛ فجمعنا أبو بشار في مكتبه وألقى علينا محاضرة أخلاقية موجزة خلاصتها: إذا كان هذا شأنكم أيها الأدباء فماذا ننتظر من غيركم؟!