الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على مُرشد الناس إلى طريق الحق والخير، من مزايا كهولة العمر ومعاصرةُ الأحداث الماضية والأشخاص السلف، أن أعطي محدّثكم ميزة صدارة الحديث إليكم في مقتبل هذه الندوة. أما بعد؛ شهدت هذه الحاضرة العريقة الوادعة من منطقة القصيم في القرن الماضي، تألّق ثلاثة من فقهائها، تتلمذ اللاحق منهم على السابق، وحقّق كل منهم مكانة رفيعة في مجتمعهم الإقليمي بخاصّة، وعلى مستوى العالم الإسلامي بعامة، في العلم الشرعي والحديث والتفسير واستنباط الأحكام وفي التأليف، ولو لم يكن لهذه المدينة من حظّ الإنجاب سوى هؤلاء الربّانيّين النجباء لكفى، ولكنها ستظلّ بإذن الله- مثل رصيفاتها- ولودًا ودودًا منجبة، غيورة على الدين، عامرة بالعلم والإيمان، مزهرة بالوفاء والنماء والولاء. ومحدّثكم، المولود في عنيزة عام 1363ه - 1944م لم يُدرك أولهم (صالح العثمان القاضي المتوفى عام توحيد المملكة 1351ه - 1932م) لكنه عَرف الثاني عن قُرب (عبدالرحمن الناصر السعدي المتوفى عام 1376ه - 1956م) فحضر دروسه، وصلَّى وراءه بمقدار عمر اليافع آنذاك، وتداخل معه أُسريًّا، وكانت معرفة قصيرة السنوات في الصغر، لكنها تركت بصمات ثريّة بالغة العمق والتأثير في الكبَر. أما الثالث (الشيخ محمد بن صالح العثيمين، المتوفى عام 1421ه - 2001م) فاقترب منه طيلة سنوات بزوغ نجمه بمعرفة وثيقة؛ تتلمُذًا وصلة عائليّة وصداقة. اتّسمت شخصيّات هؤلاء المشايخ بصنف راقٍ من النبوغ والاعتدال والمرونة، مما جعل مدينتهم وأمثالها واحات سِلْم وطمأنينة، لم يعكّر صفوها ما شهدته بعض بُؤر التشدّد التي أوجدتها ظاهرة إخوان من طاع الله في تلك الحقبة، بل إن المرء قد يعجب من بلوغ الشيخ السعدي درجة رفيعة من التسامح والانفتاح مع أنه لم ينل حظًا من الترحال خارج محيطه، وكم يتمنّى المرء أمام هذا التعجّب، أن تُعرض مركّباتُ صفاته على تحليل اجتماعي يفسّر أسرار ما تتميُز به من جاذبيّة وسمات كيميائيّة. كان الشيخ عقلاً واسع الأفق لقراءة نصوص القرآن الكريم، أطّر من خلاله وعيَ مَن حوله وفق أدوات اجتهاديّة خاصة به في زمنه، وأنشأ قولاً جديدًا على قول مَن سبقه، وابتكر فكرًا مستنيرًا في تفسيره وفتواه، تحدّث إلى مجتمعه من منطق التوحيد والخُلُق وفق ظروف العصر، دون إقصاء أو حِدّية، فهو عندما ردّ بكتاب من تأليفه، ممتعضًا ممّن اقترب في أيامه من درجة الزندقة، لم يكفّره أو يعنّفه أو يستعد السلطة عليه، بل فنّد أخطاءه ودعا له بالهداية، كما تقول إحدى ورقات هذه الندوة. لقد كسب قلوب من جالسه وتأثر به من استمع إليه، وصبغ مجتمعه القريب بما عُرف عنه من اعتدال وانفتاح وتقبّل الآخر والتسامح مع الغير، مما جعل تأثيره يتجدّد ويتمدّد، وفقهَه شمسًا لا يغيب وهجُ شروقها. الشيخ السعدي في سجلّ سيرته وحياته، محيط واسع بحجم مناقبه، ومع ذلك لم يُكتب عنه بما يناسب مكانته، بوصفه عالمًا سبق زمانه بفقهه وفكره واجتهاداته العلميّة، وسأتناول سيرته من دون إطالة، من جانب شخصي وَعَته أو سردته الروايات، فحفظته ذاكرة طفل بين السابعة والثالثة عشرة من العمر. تمرّ على ذاكرة الشاب الصغير صور تبهت مع مرور الزمن، لكن هيئة الشيخ والظروف التي أحاطت به، بقيت ناصعة في الذهن، لا يعادلها في الوضوح سوى ملامح الوالدين والأقربين من الأسرة، ذلك أن الشيخ في حينه كان محطّ نظر المجتمع وأحاديثه المتداولة، وكانت اهتمامات الصغار تنحصر داخل دائرة المنزل والمدرسة والمسجد، كما هو شأن الجيل الذي أدركه. كان الشيخ وأمير المدينة يمثّلان أبرز محورين في أذهان الناس، فهيبة الأمير من نوع يرهب إحساس الصغير، خلال مرور موكبه ماشيًا باتجاه المجلس في قلب المدينة، فلا يكون بوسع الصغير سوى أن يلوذ بجانب الطريق من فرط رهبة جلسته مع حاشيته، بينما كان وقار الشيخ من النوع الودود الناعم، الذي إذا مرّ في الطريق يُسعد كل الناس الاقتراب منه، كبيرهم وصغيرهم، فيأنسون بالتحدّث إليه، بينما يحظى الصغار بلفتة رقيقة منه، وربما بهديّة من عملة معدنيّة يخرجها من جيبه، أو بقلم رصاص، أو بنسخة أنيقة من المصحف الشريف. كان الشيخ يستملح الطُرف، يتبادلها مع من يقابلونه ممّن كان يستلطف الشيخ دعاباتهم في السوق، وما يزال الناس في مجتمع عنيزة يتناقلون الطرف الشائعة المتبادلة معه. قد يستوقفه البعض وهو في طريقه إلى المسجد، ليستفتيَه في شأن، أو ليدعوَه إلى منزله على القهوة والشاي والمتوافر من فاكهة الموسم، مع جمع محدود من أصدقاء الشيخ ومعارفه، فيتبسّط الشيخ مع الداعي ويمازحه مثلاً إذا كان في الشهر الأخير من العام قائلاً: يكون موعدك بإذن الله مطلع العام المقبل! وسرعان ما يدرك الداعي بأن الموعد سيحلٌ بعد أيام. كان من العادات الجميلة المنقرضة في نجد، وفي عنيزة بخاصة، أن معظم الدعوات تكون على القهوة والشاي اللذين يصنعان أمام أعين المدعوين في مجالس الاستقبال، وتكون الدعوات عادة بين صلاتي الظهر والعصر، أو بعد صلاة العشاء، وإذا ما ازدحمت المواعيد تكون هناك دعوتان بعد الظهر أو ثلاث ومثلها بعد العِشاء بما لا يتجاوز الرابعة بالتوقيت الغروبي (العاشرة ليلاً) وتعرف بالقهوة الأولى والثانية وربما الثالثة. ومن عادة المجتمع، كما هو معروف، وعلى اختلاف المناطق، تبادل الدعوات، وتكريم الغرباء القادمين، أو الاحتفاء بالأمير أو الشيخ، وكنت أدركت الحفاوة بالشيخ مدعوًّا في منزلنا وفي منازل الأقارب، وغالبًا ما يكون من واجب الصغير سنًا حينئذٍ تقديم الضيافة واقفًا طيلة مدة تخديمها. وكان الشيخ يستضيف في شهر رمضان المبارك جماعة المسجد الجامع الذي يؤم الناس فيه، لتناول القهوة العربيّة والشاي في منتصف صلاة القيام التي تقام في الثلث الأخير من الليل، فتتّجه مجموعة تقارب الأربعين إلى منزله، فتصعد سوق المسوكف الطويل في عتمة الليل، مرورًا بالدكاكين المغلقة، ثم تنثني إلى اليمين عند دكان الراجحي وتتجاوز بيت المزيد، لتصعد درجات منزله من بابه الشرقي، وقد اختارني الشيخ لخمس سنوات سبقت وفاته، لتمكين كفيف من سكّان البدائع من حضور هذه الدعوة، وكان الكفيف يعتكف كل عام في العشر الأواخر من رمضان المبارك في مسجد الشيخ. والشيخ عبدالرحمن، يعكف في منزله على القراءة والتأليف، فإذا ما حان وقت درسه في المسجد، يخرج من باب الدار في حويطة البسّام، المجاور لمنزل أسرة المزيد والضرّاب وحمد الشبيلي (والد السفير أبي سليمان وإخوانه) ووجه الشيخ يتهلّل بشرًا ونورًا، كأحد وجوه السلف الصالح. كان الوالد من خُلَّص ملازمي الشيخ، وتتّصل الأسرتان بصلات قرابة وصداقة عميقة، وقد لمع نجم الشيخ قبل سنوات من تولّيه الإمامة خلفًا لسلفه عام 1351ه وكان مما يروى أن الوالد رافقه في رحلة حجّ على الركايب عام 1345ه وعلى مقربة من البدائع عائدين من الحج، تلقّاهم مستقبلون من عنيزة مرحّبين بمقدم الشيخ، وهم يتهيّبون إبلاغ الوالد خبر وفاة زوجته الأولى، فكان وجود الشيخ على رأس القافلة عاملاً مساعدًا في تخفيف هول الصدمة، وقد رثاها الوالد في قصيدة معروفة من مائة بيت، سرد فيها القصّة: يوم انقضى حجي وجيت البدائع القلب ولهان (ن) ولا من بضايع قلبي على المحبوب ولهٍ (ن) وضايع سرنا على العيرات مرخات الأرسان ثم يقول فيها: جتنا الركايب طفّح (ن) بالخطوطي تنشد عن اللي جاهمين قلوطي كأنهن موج البحر والشطوطي لعل ركابه يحجّون الأركان قالوا يمين يأهل الجيش فنجال خوذوا خبرنا لا تعدّون هالجال عطوني المكتوب وأبصرت بالحال الطيّب اللّي بادرن يوم عزّان كان الناس يتفاعلون مع شيخهم، ومع كل ما يُجدّ في محيطهم، فتقول الرواية، أن تحديث عمارة الجامع عام ولادتي (1363ه) كان حدثًا مجتمعيًّا بامتياز، تداعت له أيادي المحسنين، كلٍّ بحسب استطاعته، وعاش معه الأهل باهتمام بالغ، وأشرف عليه الأمير والشيخ، فعبّر الوالد في هذا بقصيدة مطوّلة بالفصحى جاء فيها: ألا أن شكر الله أصبح واجبًا على كل عبدٍ للإله مطيع لِما تمّ من بنيان جامعنا الذي أتى حسَّنه بين القرون بديع به عالمٌ، حبرٌ يذود بمُرهف عن الدين والقول الصحيح منيع وعندما تعرّض الشيخ لوشاية مغرضة من خارج القصيم، هدفت لتشويه بعض اجتهاداته الفقهيّة، مما ستوضّحه مباحث هذه الندوة، ضجّ المجتمع تعاطفًا معه ودفاعًا عن منهجه، وصاغ الوالد عن تلك الوشاية قصيدة عبّرت عمّا نال محبّي الشيخ من ألم وكرب: أيا زمرة أدت إلى الدين نُصرة وغايتها غير الإله تريد لأغراضها الدنيا أذاعت بحبرنا قضايا فروع، والمذيع لديد أما عندما أخذ الله أمانته، واحتبست الأنفاس وجفّت المآقي والأحداق، فكانت له رثائيّة معبّرة تجاه صديقه وشيخه، فقيد الأمّة: قضى القضاء، فلا المخلوق يمنعه عن الذي في علوم الدين ربّاني أيا عنيزةَ، ثوب الكرْب فاتّزري على فقيدي، فكتم الحزن أعياني أيّها الحضور الكريم: شهدتُ صغيرًا بعض دروسه، يلقيها في مكتبة المسجد قبيل العصر، أو بعد المغرب، في التفسير والفقه والحديث والمواريث، أمام إعداد من طلبة العلم والأعيان والمعلّمين، وكتَبَة الشيخ (عبدالله العمري وعبدالله السلمان) ووجد الشيخ بُغية نفسه في العلم وممارسة البحث والتأليف، عزوفًا عن القضاء، وزاهدًا في المناصب والأضواء، ورع الذمّة، حريصًا على كسب كل القلوب، وعندما طُلب للإشراف على المعهد العلمي (الذي التحقتُ به عند افتتاحه عام 1373ه - 1953م) وافق متطوّعًا، وكان يحضر نشاطه الثقافي المنبري. لقد كان الشيخ على درجة مشهودة من سعة الأفق وتسهيل الفتوى وأعمال الاجتهاد الفقهيّ، تذكّر بالأئمة من علماء الإسلام الأفذاذ، وبمنزلة عالية من السماحة والتواضع ومكارم الأخلاق، جعلت دارته في زمنه، كما كانت دارتا سلفه وخلفه مهوى أفئدة طلاب العلم من داخل البلاد ومن خارجها، واللّافت للنظر، أن أجواء تسامحهم واعتدالهم، قد ساعدت في إبقاء المدينة رمزًا للانفتاح وتقبّل الآخر، وتفاعُل المجتمع مع صنوف الثقافة الراقية، دون الإخلال بالقيم والثوابت. اليوم، وبعد مضي ستة عقود على وفاته، تستعيد الذاكرة ما مرّ بالمخيّلة من تأثر به، وتتساءل؛ هل كان ذلكم الانبهار بشخصيّته، ناتجًا عن حكم شاب صغير رآه عن قرب، واستمع إليه وراقب تعامله، وأحسّ بتَجلّة المجتمع له؟، لقد كان من الممكن لصور الإعجاب والتأثّر، أن يخفّ وهجها في السنوات اللاحقة من العمر، وأن تتغيّر مع معايشة عشرات النماذج التي عرفها المرء أو قابلها، غير أن هذا الاقتناع، وعلى الرغم من مرور الأعوام، ظلّ يترسّخ ويتعمّق ويزداد، وما ذلك إلا لأن الشيخ قدّس الله روحه، كان من نبع صاف أصيل، خلّقه الله بالخلُق الرفيع، ووهبه منزلة عالية من السعة في المعرفة والوسطيّة ومكارم الخصال، وهو ما أوصل آثاره العلميّة إلى الشهرة العالميّة، وجعل تأثيره يصل إلى عمق العالم الإسلامي، وإلى الأقلّيات المسلمة في الدول الأخرى. هكذا، طار صيته وجنّحت سيَرُ أمثاله القدوة من علمائنا، مُمثّلة مفاتيح القوة الناعمة للنهج الإسلامي المعتدل إلى تلك الأمصار والشعوب، ولا أقلّ، وهذه الندوة المباركة تستعيد سيرته، من أن تسفر عن مشروع علمي لكتابة سيرته كاملة، بأسلوب موضوعي شامل، يستجلي صور النبوغ عنده، وأسرار التميّز في فكره، ويستكشف مفاتيح شخصيّته وملامحها، ويغوص في أعماقه، ويبرز نهج التسامح والاعتدال عنده، ونحمد الله أن ذويه الأقربين، وعددًا من مجايليه، ما زالوا شهودًا بيننا، وهم الأقدر على رواية مسار حياته، وعلى قراءة ما وراء فكره. وأن تتبنّى هذه البلاد التي تفخر به، إقامة مؤسسة خيريّة ترعى تراثه، فتلاميذه الذين أدركوه، ومريدوه الذين نهلوا من علمه، وذووه ومحبّوه في داخل الوطن وفي خارجه، سيسعدون بالإعلان عنها، والانتساب إليها، ومؤازرة قيامها بما يتناسب ومكانته العلميّة في وطنه والعالم الإسلامي. لقد كان السعدي حَبْرَ زمنه، صوتَ الاعتدال والوسطيّة، البعيدَ عن الهوى والغلوّ والزيف الفكري، نوّر الله ضريحه، وأبدل الأمة بمثله وبخير منه. كلمة هُيئت لتلقى في افتتاح مؤتمر الشيخ عبدالرحمن السعدي في جامعة القصيم فسبق القدر، واختار الله كاتبها الدكتور عبدالرحمن الشبيلي إلى جواره فلم يُلقها مثلما لم تُلقَ، وتنشرها الجزيرة الثقافية.. رحم الله الشيخ عبدالرحمن وتلميذه الدكتور عبدالرحمن.