أتذكر في مطلع حياتي كطالبة جامعية أن أستاذة بالجامعة الأمريكية ببيروت قد قدمت محاضرة بعنوان «الهمجي النبيل»، وهو عنوان مستعار من طروحات ثقافية مهمة لعصر الأنوار الفرنسي إلا أن ما جعلها تعلق في ذهني إلى هذه اللحظة رغم ما مرّ عليها من سنوات هو قول المحاضرة بما معناه: «إن بعض المثقفين يعانون مما سمته انفصامًا (عقليًّا - وجدانيًّا) بين السلوك والكتابة؛ فحياتهم الواقعية، خاصة على الصعيد السياسي، تحفل بالميكافلية، كما قد تحفل حياتهم الأسرية بالقسوة. أما حياتهم المتخيلة فلا جان جاك روسو ولا فولتير ولاديفيد هيوم يضاهيهم في الانحياز لقيم المساواة والحرية والأنفة من الإذعان والعنف معًا..». بالمقابل أتذكر رأيًا رشيدًا ومنصفًا للدكتورة سلمى خضرا الجيوسي، قالت فيه ما معناه: «... بعض المثقفين لا يمكن أن يكتفي بتسمية أحدهم بمسمى نوعه الاجتماعي، بل لا بد من تسميته بمسمى إنسان، وذلك بالمعنى الحضاري لكلمة إنسان، وبالمعنى الثقافي لكلمة إنسان مثقف». وفي استطراد توضيحي قالت لي د. سلمى إن ذلك يرجع لأسباب تتعلق بالنضالات السرية التي ترتكبها حفنة صغيرة من المثقفين للانتصار على الهوى والمغريات في محاولة للوصول إلى انسجام ذاتي مع القيم التي يكتبون عنها مقابل ما يسود حياة المثقفين والحياة السياسية والاجتماعية العامة من شوزفرينيات وانفصامات حادة بين كتابات المثقفين وسلوكهم. وهي ترى أن مما يميز المثقف الذي يستحق مسمى المثقف الإنسان هو تحليهم بالقيم الحضارية المعاصرة مع محافظتهم على حزمة من قيم الأصالة بالمعنى التاريخي الجذوري. وفي رأيها إن بعض المثقفين السعوديين ممن عملت معهم على ترجمة مجموعات من عيون أدب التراث والأدب الحديث يجمعون بين الثقافة المعاصرة معرفة وعلمًا، وقيم التراث العفوية الشماء، مثل الكرم والشهامة والنبل والغيرة (بمعنى الحمية وليس الحسد)، والطيبة (بمعنى افتراض حسن النية في الآخرين وليس بمعنى السذاجة)، مع ما ترى في ذلك البعض من ميل إلى التسامح يصل حد التسامي. وهي قيم - بحسب وجهة نظرها - مفقودة في عموم مثقفي هذه المرحلة المعاصرة الرجراجة، خاصة شيمة أو قيمة الكرم والطيبة والتسامح. ولعلني أجد في هذا الخيط التفريقي الرهيف بين مثقف ومثقف ضالتي في الكتابة عن د. جاسر الحربش الذي لم ألقَه في حياتي إلا مرة واحدة وجيزة على أرض جريدة الجزيرة في إحدى الندوات العامة, إلا أن متابعتي لكتاباته كزميل منذ كتابته بمجلة اليمامة، وكجار في الكتابة لعشر سنوات، إضافة لما سمعته عن سمعته الطبية والأسرية، وسمعته الثقافية، تخولني أن أستجيب بشغف لأقول في حقه كلمة حق ولو عن بعد. وفي رأيي إن رأي د. سلمى الجيوسي الآنف عن بعض المثقفين السعوديين ينطبق على د. جاسر الحربش حيث (حرفه النبيل وحرفته النبيلة) هي دليلي لأهتدي إلى ما يتمتع به هذا (الإنسان) من حس المثقف المسؤول. ولنتأمل الفقرة الآتية التي كتبها د. الجاسر في مقاله «الوداعي» في يوم 12/ يونيو/ 2019م بجريدة الجزيرة بعد عقد من الكتابة المتواصلة مرتين أسبوعيًّا؛ فهي على اقتضابها تعطينا ممسكًا ملموسًا لأي نوع من المثقفين ينتمي د. الجاسر، وأي نوع من المثقفين تعكس كتابته. ومما جاء فيها قوله: «كنت قبل هذه الزاوية أكتب في اليمامة، ثم توقفت طائعاً لسنوات. قررت العودة للكتابة في صحيفة الجزيرة العريقة بدافع وجوب الكتابة التنويرية في ذلك الزمن الذي بدأت فيه العربة الوطنية تتحرك إلى الأمام، بعد أن كانت الكتابة من قبل سباحة ضد التيار. أما اليوم فقد انطلقت العربة بسرعة فائقة نحو الأمام، بحيث لم تعد كتابات الرأي على النمط القديم تناسب الزمن ولا احتياجات المرحلة». هذا القول يضعنا وجهًا لوجه أمام المثقف الملتزم الذي كتب عنه الفيلسوف الفرنسي جون سارتر, وهو أيضًا يضعنا وجهًا لوجه مع المثقف العضوي الذي كتب عنه المفكر الإيطالي أنتوني جرامشي. فما الكاتب إن لم يكن كلمة وموقفًا؟ وأي كاتب يجازف بالتوقف عن الكتابة ولا تعنيه المغريات ولا حتى تلك الغواية التي أسماها الأمل، ولا ذلك الإحساس الغر بضرورة الاستمرار لما بعد الرمق الأخير، فهو ذلك النوع من المثقفين بتعبير بوردو الذين لا ينتظرون أن يدعوهم أو يكلفهم أحد لأداء قسم أمانة الكلمة. فيوم أحس الجاسر بجدوى الكلمة أراد أن يشارك في جعل طريق طالما عانت من التوحش أن تكون آهلة. وهي نفس المرحلة التي يذكر الأستاذ عبدالعزيز الخضر في كتابه (سيرة دولة ومجتمع) أنها أعطت العديد من المثقفين على اختلاف مشاربهم الإحساس بجدية التوجه للخروج من ضيق الأفق وتشديد الخناق إلى رحاب حراك وطني واعد مما بثهم بالثقة، وحداهم بالأمل لأخذ الأمر بجدية ومسؤولية. وبمثل هذه البصيرة المستنيرة قدم د. جاسر مقالات بديعة في جرأتها وبساطتها في النقد الاجتماعي، منها مقالات مواقف مبدئية في حق المرأة السعودية وفي حق الاختلاف وفي حق الثروة الوطنية وفي حق السلوك الاستهلاكي وفي حق التنوير الطبي والصحي وفي حق القضايا العربية المبدئية. عدا عن مشاركاته للقراء في قراءات كتب جديدة جادة، تفتح الآفاق على ما ينتجه الآخر خاصة وهو المثقف الذي يتقن أكثر من لغة غير لغته الأم، وكذلك مشاركاته في ندوات ثقافية عديدة في موضوعه العزيز (التنمية الوطنية) على كافة الأصعدة، من الاقتصادي إلى الثقافي. يضاف لذلك سمعة أبي عدي الأسرية كأب ديمقراطي وأريحي لأبناء ساروا على دربه العلمي والمعرفي. وسمعة د. جاسر كطبيب يعرف قيمة قسم الشرف الطبي, عدا عن سمعة ابن الرس كمواطن لا يسمح في حب الوطن بأي من أشكال التشرنق القبلي أو المناطقي أو المذهبي؛ فوطنيته كقلمه وحريته أولاً وآخِرًا. إن الكتابة عن الزملاء وعن الأصدقاء عمومًا تحدٍّ كبير خشية الوقوع في فخ المبالغة أو الإجحاف، ويصبح التحدي جارحًا حين نكتب عن الآخر عبر جسر الحبر وببوصلة صداقات متخيلة ليس إلا.