تاريخ العرب بحرٌ عميقٌ زاخر، كلمَّا غصتَ في أعماقة خرجتَ بملء يديك لآلئ. وهو كنزٌ لا تنفد جواهره ونفائسه، ولا تنتهي عجائبه من صروف ووقائع. وهو سماءٌ تلمع فيها نجومٌ، وتسبح فيها أقمارٌ وشموس، رجالٌ ونساء، يستعصي تاريخهم على النسيان، منهم من يبسط لهم التاريخ رداءَه، ويفسح لهم في مجلسه الصدارة، ومنهم من ينزوون في ردهاته، ويتفرقون في أوديته وشعابه. منهم من لا يختفي بريقه، ولا يعتريه الصدأ كالذهب، ومنهم من يتآكل ويصدأ كما الحديد. منهم من يصنعه موقفٌ واحدٌ فيرفع ذكره ويخلّد ذكراه، ومنهم من تتزاحم المواقفُ وتحتشدُ الأحداثُ لتدافع عن مكانته ووجوده في ساحة التاريخ، وبين هذا وذاك تموج أحداثٌ ووقائع، ويتلاشى خاملو الذكر ومن لا يعبأ التاريخ بهم. ومن شخصيات العرب، التي خلَّدها موقفٌ واحد، لا يذكر التاريخ لها غيره، شخصية جاءت من أعماق التاريخ العربي القديم، لا نعرفُ عنها الكثير، كل ما يذكره التاريخ عنها، ونذكرها به، ذلك الموقف ولا شيء غيره، إنها «اليمامة بنت سهم بن طسم»، المعروفة بزرقاء اليمامة، التي يُضرب بها المثل في حدة البصر. عاشت في اليمامة، وينسب البعض اسم اليمامة إليها، ومن قبلها كانت تُسمى باسم «جَوّ»، و»العَروض»، و»القريّة»، وإن قال البعض إن اسم اليمامة الإقليم أسبق من اسمها، وإنما جاء اسمها «زرقاء» مضافاً إلى اسم «اليمامة»، كما أضيف إلى اسم «جَوّ»، كما قال أبو الطيب المتنبي: وأَبصرُ من زرقاء جَوٍّ، لأنني.. إذا نظرت عيناي ساواهما علمي. ولكي ندرك أبعاد ذلك الموقف، يجب أن نغوص قليلاً في أعماق تاريخ هذه المنطقة التي تُنسب إليها، أو تنتسب هي إليها؛ لنشاهد كيف تجمعت خيوط القدر لنسج هذا الموقف، وصناعة تاريخ هذه الشخصية. فقد كانت «جَوّ» أو اليمامة، موطناً لحيَّين عظيمين من أحياء العرب البائدة، هما: طسم وجديس. تشاركا معاً في منطقة من أكثر مناطق الجزيرة العربية خصوبة، وأغناها نخلاً وخيراً ففجَّروا العيون فيها، وزرعوا الحدائق والمزارع، وشيَّدوا الحصون، وكانت الزعامة والغلبة لطسم. ولأن الدنيا لا تدوم لحي، والأيام دول؛ ولأن التاريخ عجلة تدور، كانت نهاية هاتين القبيلتين، أقرب إلى الخيال منها إلى المنطق، بدأت بحادثة مثيرة، بين امرأة من جديس وزوجها، تخاصما، فحاول الزوج أخذ ابنهما عنوةً، فأبت الأمُ واحتكمت إلى عمليق، أو عميلق، ملك طسم، وكان ظلوماً غشوماً، فجعل الولدَ من غلمانه، وأمر ببيع الرجل والمرأة، فقالت فيه شعراً منددة بحكمه الظالم، فلمَّا بلغه، أمر ألا تتزوج بِكرٌ من جديس حتى تدخل عليه قبل زوجها، فلقوا من ذلك ذلاّ، فكانت أحكامه تفتقر إلى العقل والمنطق، وتنطق بالسطوة. وحدث أن تزوجت امرأةٌ من جديس، ودخلت على عمليق وامتنعت عليه؛ فخاف العار فأدماها، فخرجت والدماء تسيل على قدميها (الحموي 5-442). كانت هذه المرأة أخت سيد جديس الأسود بن غفار، فلما وصلت إلى قومها، وقد شقّت جيبها من قُبلها ومن دُبرها، أنشدت شعراً توِّبخ به قومها من جديس على خضوعهم لحكم ذلك الطاغية المتغطرس، وتحرِّضهم عليه وعلى قومه. ولاقت دعوتها استجابة فتحركت النخوة في قومها، وتزعمهم أخوها وسيدهم، وأشار عليهم بحيلة للقصاص؛ لأنهم لا طاقة لهم بمواجهة الطسميين، فهم أقل منهم عِدةً وعدداً. هكذا يحدثنا التاريخ، فمن لا يقوى على المواجهة يلجأ إلى الحيلة، ومن لا يملك قوة الساعد، يملك دهاء العقل أو حكمته. كانت الخدعة أن أعدَّ الأسود وقومُه للملك طعاماً، أو طُعماً لاصطياده، ودعاه وأشرافَ قومه للطعام، بينما أمر الرجال من قومه أن يخفوا سيوفهم في الرمال، حتى إذا جاء، وجلسوا للطعام، وثب الأسودُ عليه فقتله، واستخرج الجديسيون سيوفهم وهجموا عليهم فقتلوهم عن بكرة أبيهم. وزادوا فركبوا خيولهم وهجموا على طسم في ديارهم فقتلوهم شر قتلة، وسبوا نساءهم وأطفالهم ونهبوا ديارهم. فكان الانتقام، وكانت غلبة الحيلة عندما تتوارى القوة ويوهن العزم. إلى هنا لم تظهر زرقاء اليمامة على ساحة التاريخ ومسرح أحداثه بعد. وإلى أن تُرفع عنها الستارة، وتعتلي خشبة المسرح، تستمر المكائد وتدور رحى الحياة في جزيرة العرب قديماً بين كرٍّ وفرّ. تقول كتب التاريخ إنه لم ينج من المذبحة، التي وقعت لطسم، إلاّ رجلٌ واحد يقال له «رياح بن مرة»، هرب حتى لحق بتُبَّع ملك حمير، وقيل حسان بن تُبَّع الحميري، فاستغاث به، وأخذ يحرِّضه على غزو جديس والانتقام لقومه منهم، ولم يزل به حتى استجاب لطلبه، فسار على رأس جيش كبير قاصداً جَوّ، حتى إذا أصبح على مسيرة ليلة منها عند جبل هناك توقف مكانه. قد يكون مقبولاً أو مشروعاً، عند البعض، أن يستغيث طرفٌ، تعرَّض في خلافه مع طرف آخر لخدعة ماكرة ومذبحة بشعة، بطرف ثالث يسأله الغوث والنجدة. ويعلِّمنا التاريخ أن الموتور لا عقل له، وأن الغضب يُعمي ويصمّ، فهناك عند هذا الجبل طلب رياح الطسمي من الملك أن يتوقف، قائلاً له: إن لي أختاً متزوجة في جديس يقال لها يمامة، وهي أبصر خلق الله على بعد، فإنها ترانا وتنذر بنا القوم. إنه يضحِّي بأخته، ابنة أبيه وأمه، انتقاماً من قومٍ ذبحوا قومه، وسبوا نساءهم وأطفالهم ونهبوا ديارهم، إنه الشعور القومي الذي يسمو على الشعور الشخصي. وهكذا انحسرت ستارة التاريخ، وأهلَّت علينا شخصيتنا التاريخية «اليمامة»، وجاء موقفها التاريخي، الذي لا يُنسى. أقام تُبَّع في ذلك الجبل، وأمر رجلاً أن يصعد الجبل فينظر ماذا يرى، فلما صعد الجبل دخلت في رجله شوكة فأكبّ على رجله يستخرجها فأبصرته اليمامة، فقالت لقومها: إني أرى على الجبل رجلاً وما أظنه إلاّ عيناً فاحذروه!، فقالوا لها: ما يصنع؟ فقالت: إما يخصف نعلاً أو ينهش كتفاً، فكذّبوها وسخروا منها، واتهموا عينيها بالبوار والكذب. ولأن الأمور تسير بأقدار، ما شاء الله لها أن تسير، فإن رياحاً هذا قال للملك: مُر أصحابك ليقطعوا من الشجر أغصاناً ويستتروا بها ليشبِّهوا على اليمامة. فقطعوا الشجر واستتروا به، حتى إذا دنوا من اليمامة ليلاً، نظرت زرقاء اليمامة فقالت: يا آل جديس إني أرى شجراً يسير، أو قالت: جاءتكم أوائل خيل حمير، لكنهم كذَّبوها، وسخروا منها، فصبّحتهم حمير. وهذا جزاءُ من لا يأخذ الأمور على محمل الجدِّ، ولا يعطي للاحتمالات جميعاً نصيبها. أليمٌ أن يدرك الانسانُ خطأَه بعدما لا يكون هناك سبيلٌ لتصحيحه، وبعد أن تكون الفأسُ قد وقعت في الرأس، فما أن باغت الحميريون قومها وأطبقوا عليهم حتى أدرك قومها صدقها وصدق نبؤتها، وأن بصرها وحدسها لا يكذبان، ولكن ما كان يجدي بعد فوات الأوان. هكذا ظهرت زرقاء اليمامة على مسرح الأحداث، وأدَّت دورها القصير كما قُدِّر لها، وقالت كلمتها، إلاّ أن القوم لم يستمعوا لها، ونصحتهم فلم يأخذوا بنصيحتها. فتح تُبَّع حصون جَوّ، وقتل جميع رجالها، وهدم ما كان قائماً من بنيانها، واستعصى عليه الحصن الذي فيه اليمامة، فظلَّ يحاصره حتى اقتحمه، وقبض عليها، وأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جَوّ فماتت بعد أيام، كما أمر أن تُسمى باسمها، فسُمِّيت باسمها إلى الآن، وقال تُبَّع يذكر ذلك: وهكذا دارت رحى التاريخ، فكانت نهاية طسم على يد جديس، ونهاية جديس على يد حمير، وبادت القبيلتان ولحقتا بقبائل العرب البائدة عادٌ وثمود وغيرها. وخُرِّبت «جَوّ»، فقتل تُبَّع أهلها وسار عنها، ولم يخلِّف بها أحداً، وكان ذلك على أرجح الأقوال أول القرن الخامس قبل الميلاد. وهكذا انتهى دورُ زرقاء اليمامة، وانتهى موقفها، واختفت فجأةً في نهاية مأساوية مفجعة. إن المسكينة لم تدِّخر وسعاً في تحذير قومها، كان بصرُها سلاحَ قومها الذين لم يحسنوا الاستفادة منه، كما كان سرَ قوتها الذي نالوا منه وأفقدوها إياه. قيل إنها كانت ترى الشخص من على مسيرة يوم وليلة، أو مسيرة ثلاثة أيام، وترى الشعرة البيضاء في اللبن. فهل كانت قوة البصر هذه فطرة طبيعية خُلقت بها، أم فطرة طبيعية أكسبتها العناية والرعاية قوة إلى قوتها؟ لقد قيل إنهم لما قلعوا عينيها وجدوها محشوة بالأثمد، وهو حجر أسود كانت تدقه وتكتحل به؛ ولهذا سُميت زرقاء لزرقة عينيها. إن المرءَ ليكاد يجزم أن زرقاء اليمامة جمعت بين حدةِ البصرِ ونفاذ البصيرة، فمناداتها لقومها بأخذ حذرهم وأخذ الأمور بجدِّية (خذوا حذركم يا قومُ ينفعكم.. فليس فيما أرى من أمرٍ يُحتقرُ)، وتفكُّرها في أمر الأشجار المتحركة (إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ.. لأمرٍ اجتمع الأقوامُ والشّجرُ) يدل على نفاذ بصيرة وحكمة. وإن كانت هذه القصة قد وشَّاها الشِعرُ، ونال منها الخيال، وأضاف إليها اللاحقون أو انتقصوا منها، مما جعلها محل ريبة وشك وعدم تصديق من البعض، إلاّ أن الحقيقة التاريخية المتمثلة في الغزو الحميري لمنطقة اليمامة في عصر ملوك تبَّع لكبح جماح القبائل الخارجة على نفوذهم، وإجبارهم على دفع الخراج، وتأمين الطريق الرئيس لتجارتهم في وسط الجزيرة العربية، قد يؤكدها ما حدث. ولم تكن نهاية طسم وجديس محل تشكك تاريخي فحسب، بل نال الشَّكُ زرقاءَ اليمامةِ، فشكَّك البعض في قدرتها على الإبصار أكثر مما تستطيعه عليه العين البشرية العادية، متعللين بأنه من الصعب على العين البشرية أن تبصر مسافة أبعد من خمسين كيلومتراً وعلى أن يكون الأفق ممتداً تماماً، كأن يكون الرائي على قمة جبل مرتفعة، أما زرقاء اليمامة فلم يُروى عنها صعود الجبال، كما أن الأرض كروية، وهذا يعني أن الأفق لا يكون مرئياً بعد مسافة تقارب خمسة كيلومترات، لأنه ينحني مختفياً مع تكور الأرض. ومع ذلك فإن من يقول إنها كانت ترى الشخص على مسيرة يوم وليلة يجعل رؤيتها منطقية؛ لأن هذه المسافة تعني قرابة خمسين كيلومتراً، وأنها ربما تغلبت على انحناء سطح الأرض، بأن كانت تصعد هضبة أو تلة قريبة من مساكن قومها، أو أعالي ذلك الحصن الذي تحصنت فيه، مما يتيح لها أفقاً ممتداً ورؤية لمسافة أبعد. وعلى كلٍ، فقد انطوت صفحة زرقاء اليمامة من الحياة، وخلَّدها التاريخ من موقفها هذا الوحيد مع قومها، وبقيت في سجل التاريخ يُضرب بها المثل في حدة البصر، فيقال «أبصرُ من زرقاء اليمامة». ** **