في الأساطير العربية القديمة" كما في الأساطير الإغريقية، لا بد من نبوءة كاهنة أو كاهن لكي تتحقّق المأساة. ان العنصر الأهم في التراجيديات العربية القديمة والاغريقية متماثل الى حدّ بعيد: يقف الكاهن ليعلن ان الكارثة ستقع، ثم - إثر ذلك - يطلب من الجميع ان يستعدوا لملاقاة الحدث. ولكن" ولأجل ان تتحقق المأساة، لا بد من صدود جماعي عن النبوءة" عدم تصديق وربما تشنيع بصاحبها" بعد ذلك مباشرة تحدث المأساة. في اطار هذا التصوّر تقع اسطورة "زرقاء اليمامة" الأكثر شهرة في التراث الشعبي العربي القديم والحديث" والتي روتها، مراراً وتكراراً، سائر الموارد العربية والإسلامية بوصفها جزءاً عضوياً من مَرْوية تاريخية عن حرب دارت - ذات يوم - بين "طسم" و"جديس"، وهما من قبائل العرب البائدة. روى الطبري 1: 451 والمسعودي 2: 264 وياقوت الحمويّ 5: 506 هذه الأسطورة في سياق أخبار تاريخية عن حروب القبائل ودور اليمن القديم في تثبيت الحكام القبليّين. ونادراً ما ترسبت في ذاكرات المتلقين فكرة ان اسطورة زرقاء اليمامة تخص - بالفعل - قبيلتين عربيتين خاضتا حرباً طاحنة، وان اليمن لعبت الدور الحاسم في تحديد المصير التاريخي لهما. كانت جديس بحسب المَرْوية التاريخية الطبري، ابن الأثير، المسعودي خاضعة لحكم طسم وكان أحد ملوكها يدعى عمليق المتحالف مع سبأ. ويبدو انه، استناداً الى الأسطورة، تمادى في قسوته وظلمه حتى انه فرض على جديس ان تَزُّف اليه كل عروس قبل زفافها، وان "لا تتزوج بكرٌ من جديس حتى تدخل عليه فيفترعها قبل زوجها". تقول الاسطورة ان ثائراً من جديس على حكم الملك عمليق، دبّر عملية اغتيال ناجحة للملك وحاشيته وأتباعه، بما مكّن جديس من فرض سيطرتها على القبيلة المنافسة طسم. لكن رجلاً من القبيلة المهزومة فر الى اليمن طالباً النجدة من ملكها أسعد تبّان بن ملكيكرب فسيّر هذا حملة عسكرية لتأديب جديس على تمرّدها واعادة السلطة الى طسم. كانت الحملة بقيادة ابنه حسّان، الذي سارع الى تنفيذ المهمة "فسار تُبَّع في جيوشه حتى قرب من - جوَّ - وهي اليمامة، فلما كان على مقدار ليلة منها عند جبل هناك، قال رياح: وهذا اسم الرجل الفارّ: توقف ايها الملك فإن لي أختاً متزوجة في جديس يقال لها يمامة وهي أبصر خلق الله على بُعد، فإنها ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، واني أخاف ان ترانا وتُنذرَ القوم. فأقام تُبّع في ذلك الجبل، وأمَر رجلاً ان يصعد الجبل فينظر ماذا يرى؟ فلما صعد، دخلت في رجله شوكة، فأكبَّ على رجلهِ يستخرجها فأبصرته اليمامة وكانت زرقاء العين، فقالت لقومها: - يا قوم إنّي أرى على الجبل رجلاً وما أظنّه إلا عيناً جاسوساً فاحذروه. فقالوا لها: - ما يصنع؟ قالت: - إمّا يخصفُ نِعلاً أو ينهش كتفاً. فكذّبوها. ثم ان رياح - من قبيلة طسم المهزومة - قال للملك: - مُرْ أصحابك ليقطّعوا من الشجر أغصاناً ويستتروا بها ليشبهوا على اليمامة وليسيروا كذلك ليلاً. فقال تُبّع حسان: - أَوَفِي الليل تُبصر مثل النهار؟ قال: - نعم أيها الملك. بَصَرها بالليل أحدُّ. فأمر تبّع أصحابه بذلك فقطعوا الشجر وأخذ كل رجل بيده غُصناً حتى اذا دنوا من - جوّ - ليلاً نظرت اليمامة فقالت: - يا آل جديس، سارت اليكم الشجراء أو جاءتكم خيل حمير. فكذبوها. فصبّحتهم حمير واستباح حسان جديس وقتّلهم وسبى صبيانهم، ثم دعا باليمامة - بنت مرّ - فأمَر فنزعت عيناها، فإذا في داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجرٌ أسود يُقال له الإثمد كنت أكتحل به. وكانت هي أول مَنْ اكتحل به فاتخذه الناس بعد ذلك كحلاً. وأمر الملك باليمامة فصُلِبت على أبواب جوَّ وقالوا: سموا جوّ باليمامة". اسطورة الكحل على غرار تقليد ثقافي قديم ونموذجه الاغريقي: الالياذة كان شعراء الجاهلية يقومون باعادة صياغة شعرية للمآسي "التاريخية"" لا لأن الأقاصيص والخرافات والأساطير والمرويات المتناقلة تستهوي هؤلاء" وانما لأن الشعر، كان في الأصل، نثراً قصصياً حكائياً" قبل ان يستقل بنفسه عن النثر الحكائي وينفصل عنه. ويبدو ان اسطورة زرقاء اليمامة شغفت قلوب هؤلاء طويلاً، حتى ان الأعشى قام لروايتها شعرياً، على الطريقة الهوميروسية: إذا ابصرت نظرةً ليست بفاحشةٍ إذ رفع الآل رأس الكلب فارتفعا قالت أرى رجلاً في كفه كتفٌ أو يخصف النعل لهفاً أيةً صنعا فكذبوها بما قالت فصبَّحهم ذو آل حسان يُزَّجي السمر والسلعا فاستنزلوا آل جوَّ من منازلهم وهدموا شاخص البنيان فاتضعا من بين رواة الأسطورة المحتملين" هناك رجل له أهمية خاصة، يدعى جبير بن الحسن وهو من أهل اليمامة بشهادة ياقوت واسناده، وسوف نرى تالياً، أهمية كونه من سكان مدينة أو موضع، يُعد الوطن التاريخي للأسطورة بإجماع الرواة. لقد اختلف الرواة والفقهاء في تقدير أهمية "رواية" جبير بن الحسن، فقال عنه أبو حاتم السجستاني ان "أحاديثه" لا بأس بها، فيما ضعَّفه النسائي، وهذا أيضاً - كما سنرى - له أهمية فائقة في تفكيك وتحليل الخبر التاريخي والاسطورة على حدّ سواء. في بعض أنساق الخطاب الأسطوري العربي القديم" يجهد سارد النص في تأويل أو تفسير أسباب وبواعث وجود شعب أو جماعة أو موضع أو ظاهرة أو حتى اسم من الأسماء الثانوية. ان فكّ "شيفرة" الاسم" واعطاء تحليل له، هو في صلب وظائف الخطاب الأسطوري" ولذا نجد ان جوّ تحولت الى اليمامة ارتباطاً بصلب فتاة من جديس اسمها يمامة أنذرت قومها بالمأساة القادمة فلم يصدقها أحد. ليس من المهم أو الضروري ان نسأل: ولكن" ما دام الملك اليمني قام بتعذيب الفتاة ثم قتلها وعلَّق جثتها على أبواب المدينة" فإنه لمن المنطقي ألاّ يسمي المدينة باسمها؟ هذا الإبهام في سلوك سارد النص" هو إبهام مُتعمَّد" غرضه الإحالة الى رمزية الصلب والشعور بالإثم والندم. ومع هذا لا بد من التساؤل عن سر الإحالة التي يقوم بها الخطاب الأسطوري الى "الكحل"؟ ما صلة الكحل بوجود عرق أسود في عيني الفتاة؟ يربط سارد النص الأسطوري، الذي ينقله الطبري بوصفه "حدثاً" تاريخياً" ويا للغرابة، بين تعرّف العرب على الإثمد وهو الكحل وبين وجود فتاة زرقاء العين. هذه الرابطة ستكون مفهومة إذا ما جرى النظر الى الإثمد في اطار "عائلة مقدّسة" من المواد التي امتلكها العرب في العالم القديم" وجعلتهم من أغنى الشعوب القديمة: البخور، المرّ، اللّبان. ولأن هذه المواد ارتبطت بالمعابد حتى ان روما كانت تعاني ارهاق موازنتها بسبب تكلفة بخور معابدها المستورد من جنوب غربي الجزيرة العربية فإن كل مادة منها هي مادة مقدَّسة، ولها منشأ عجائبي. هذه العجائبية تنبع من قلب المأساة. ويبدو ان ثمة رابطة أخرى ينبني عليها النص هي: العلاقة بين حدَّة البصر ووجود الإثمد. وإذا ما سرنا أبعد من ذلك، فثمة صلة بين اسم الفتاة زرقاء وبين كلمة "زُرّق" التي تعني حِدة البصر" وهنا بعض الملاحظات في هذا الصدد: 1 - يتأسس هذا الجزء من الخطاب الأسطوري على قاعدة معتقد شعبي عتيق لا يزال مستمراً في الراسب الثقافي الشعبي، في مجتمعات العرب اليوم، ومفاده: أَنّ الكحل يزيد أو يضاعف من حدّة البصر. ولذلك فإن مشهد نزع عيني الفتاة، ليتكشف الأمر عن عروق سود هي الإثمد" يتضمن تصوراً قديماً واسطورياً عن النبات الذي سوف يتحول الى كحل. انه، وطبقاً لهذا المعتقد، نبات في هيئة عروق سود هي سرّ البصر الحاد والجميل بدلالة الزرقة. 2 - ان كلمة "زرقاء"، حظيت بعناية خاصة في الاختيار من جانب سارد النص، إذ ان مادة "زرق" تعني: النظر الحاد، القويّ. وقد دار جدل بين الفقهاء العرب والمسلمين حول المعنى الحقيقي الذي تنصرف اليه هذه الكلمة" فقد فسَّر ثعلب قوله تعالى: ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرْقاً بقوله: زُرْقاً بمعنى عِطاشاً. وقد اعترض ابن سيده على هذا التأويل التعسفي، وارتأى ان المعنى ينصرف الى زُرْقة العين أيّ: إزرقت أعينهم من شدّة العطش. وهذا ما كان يقول به سيبويه ويوافقه السيرافي في ذلك، ف"الزُّرق" هو: الحديدُ النظر. وبرأينا ان ثعلب لم يخطئ تماماً في تأويل الآية" لأن زُرْقاً تعني الشدة في توصيف عذاب المجرمين" وهي الدلالة ذاتها في النظر القويّ أو النظر الشديد. لذا فإن "زرقاء" اليمامة" تعني المرأة ذات البصر القويّ. 3 - ان الأصل العربي العتيق للأسطورة يتصل بوجود "كاهنة" في أرض هجر تدعى زرقاء بنت زهير" ودارت مَرْويات محدودة عنها، بعضها نقله البكري معجم ما استعجم كما لفَّق الرواة على لسانها سجعاً ركيكاً وأشعاراً تفيد بنبوءات عن مآسٍ وكوارث ستقع. وهذا تقليد ثقافي عربي عريق، نجده في سلسلة طويلة من "الوقائع" الأسطورية عن كهان وكاهنات يطلقون نبوءاتهم أمام اتباعهم من القبائل والأسباط كما هو الحال مع نبوءات أنبياء اليهودية وكُهانها. وثمة سجعٌ منسوب للزرقاء بنت زهير لعلّه يتضمن "أصلاً" منسياً لفكرة تقطيع الأشجار واستعمال الأغصان لتمويه تحركات الجيش اليمني، إذْ يُنسب لها ان القبائل سألتها عن أمرٍ ما فقالت: "سعفٌ وأهان وتمرٌ وألبان خيرٌ من الهوان" وهو سجع لا معنى له، ولكن قيمته هي في اشارته الى نصيحة امرأة تدعى زرقاء، وكانت كاهنة هجر الكبرى، بأن سعف النخيل له صلة بما سيقع من أحداث. ومن المؤكد ان ثمة صلة جغرافية حقيقية بين هجر واليمامة التي تبعد عنها عشرة أيام، طبقاً لحساب الزمن في العالم القديم" لأن منازل طسم وجديس تمتد على طول هذه الرقعة الشاسعة وما حولها الى البحرين وهي هجر" بينما كان حسان الأمير اليمني في نجران ياقوت: 5: 508. لقد استنبط سارد الأسطورة العربية من واقعة "كهانة" زرقاء بنت زهير، كاهنة هجر واليمامة، فكرة التنبؤ بما ان الكاهن يتنبأ. ومن فكرة التنبؤ هذه قام سارد النص باستنباطٍ موازٍ ولكنه مُكمَّل: بما ان التنبؤ هو القدرة على رؤية الأشياء والوقائع والأحداث قبل وقوعها" فإن معنى التنبؤ ينحصر في الرؤية أيّ: في البصر الحادّ والشديد. وبذا تكون تكاملت دلالات الاسم الأسطوري والتاريخي: زرقاء" فهو اسم يدل على امرأة كاهنة، كما انه يدل على حدّة البصر. ومن هذه العناصر مجتمعة نشأت صورة مدهشة لامرأة اسطورية تملك القدرة على "رؤية الأعداء" قبل مسيرهم نحونا. اننا كمتلقين للأسطورة" نرغب، بقوة، بهذه الصورة: ان تكون لنا، نحن أيضاً، القدرة على رؤية أعدائنا أثناء مسيرهم نحونا. * باحث عراقي مقيم في هولندا.