إنه من أجل الأهمية القصوى لحاجة الإنسان لتحقيق أمنه الفكري والثقافي جاء القرآن الكريم ليعزز في الفرد والمجتمع مقومات الأمن والأمان في وجوده ومعاشه، وتحصينه من نواقض الوجود الآمن في يومه الواقع، وفي مسيرة حياته وأنشطته وتقلباته، وفي أفعاله ومسؤولياته في هذه الحياة وتفاعله مع عناصر الوجود فيها بشرية وغير بشرية، وفي مستقبله الآتي؛ سواء في حياته الدنيا أو في حياته الآخرة؛ فقد جاء القرآن الكريم ليبني في الإنسان المفاهيم الصحيحة في الفكر والعقيدة، وليثبّت لديه العمل الصالح والقيم السلوكية القويمة على أسس راسخة من الوعي والفهم والاستيعاب، وقد استهدف القرآن تحقيق ذلك من خلال ما هو عليه من رسالة لسانية لغوية بيانية دالّة بليغة مؤثرة، والإنسان مهيأ في خلقه لهذا الاستهداف؛ لأن الله، تبارك وتعالى، قد خلقه في أحسن تقويم، وزوده بأدوات التدبر والعلم؛ قال تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» التين4. وفي شهر رمضان المبارك المتجدد كل عام، وهو ما نعيش أيامه ولياليه المباركة هذه الأيام بحمد الله، نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ليهدي الناس إلى الطريق المستقيم بنوره وبيانه القول الفصل بين الحق والباطل؛ يقول الله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان» البقرة 185، وقال تعالى: «ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء» الشورى 52؛ ولذلك كان جُرْم من يكتم ما أنزل الله للناس في هذا الكتاب من البينات والهدى جُرْما عظيما، وجعل الله عقابه شديدا أليما؛ يقول الله تعالى: «إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون» البقرة 160. ولأن مهمة القرآن الكريم هي الهداية والبيان وإنارة الطريق بالفكر المستنير والفهم السديد، أنزله الله للناس ليدّبروا آياته، ويتفقهوا في معانيها وأحكامها بعقل وتفكر وتذكر؛ قال تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب» ص29، واستحث الله الناس المخاطبين بهذا القرآن لقراءته وتلاوته والتوجه إلى آياته بالتدبر العميق من خلال القلوب المفتوحة المتطلعة للتلقي والاستيعاب؛ قال تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» محمد 24. ولأن التدبر عملية إرادية إدراكية ذهنية نفسية قلبية تتحقق من خلال عملية عميقة تتم بتفاعل تام بين العقل والقلب لدى المتدبر؛ كان لابد لها أن تقوم على أسس من العلم وأدواته من السمع والبصر والتبصر والنظر والتأمل والتفكر والاستنباط؛ قال تعالى: «وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا» النجم 28، وقال تعالى: «ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون» الأعراف 100، وقال تعالى: «ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها» الأعراف 179، وقال تعالى: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا» الإسراء 36، وقال تعالى: «إن ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» ق 37، وقال تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت» الغاشية 17-20. وبالتدبر يفتح الله على المتدبر الكثير من البينات والهدى؛ لأن المتدبر بفعل التدبر يضع نفسه في دائرة التقوى التي هي باب من أبواب التعلم كما قال تعالى: «واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم» البقرة 282. إن تلك الأدوات والوسائل المهمة المتاحة تُحقق للإنسان المتدبر الوصول إلى المستوى المطلوب منه لفهم الحقائق التي تحيط به، وتحقق لمساعيه النجاح في بلوغ الغاية، وتهديه إلى السبيل القويم، الذي يجعله مدركا لما يراد له، وما يراد منه، ويجعله ناجيا من تبعات مسؤوليته، محققا للغاية التي من أجلها خلقه الله، وجعله في الأرض خليفة. ومن فضل الله أن جعل السبيل إلى ادكار هذا القرآن وتدبره متاحا ميسرا؛ قال تعالى: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» القمر 17، 22، 32، 40، وقال تعالى: «فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون» الدخان 58، ومن أوضح وسائل هذا التيسير وأبلغها أن الله جعل هذا الإنسان الذي وجه إليه القرآن، جعله مُعَلَّمَ البيان؛ فقال تعالى: «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان» الرحمن 1-4. إن النتيجة لذلك التدبر الإيجابي الفعال المؤثر هي (التذكر) الذي يظل مصاحبا للإنسان يعينه للوصول وبلوغ الغاية؛ لأنه عملية حيوية متواصلة من خلال الذاكرة الواعية في تواصل وتفاعل مستمر بين العقل والقلب الحي الذي يفقه ويفهم، ويظل في منجاة من الغفلة والتيه والهيام في أودية الضلال؛ قال تعالى عن أولئك التائهين الذين لا يفقهون: «لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها» الأعراف 179، وقال تعالى: «أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» الحج 46. ولئن التذكر أمر مهم؛ لأنه يحقق العظة والاعتبار ومن ثم الإيمان والعمل الصالح وبالتالي النجاة لأولي الأبصار؛ فقد نوّه الله عنه، ووجه إليه في كثير من الآيات، وفي عديد من المواقع في القرآن العظيم؛ ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون» البقرة 152، وقال تعالى: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» الذاريات 49، وقال تعالى: «ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون» الأنعام 152، وقال تعالى: «ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون» البقرة 221، وقال تعالى: «ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون» إبراهيم 25، وقال تعالى: «ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون» الزمر 27، وقال تعالى: «سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات مبينات لعلكم تذكرون» النور1، وقال تعالى: «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذاهم مبصرون» الأعراف 201 وقال تعالى: «إنما يتذكر أولوا الألباب» الرعد 19، الزمر9، وقال تعالى: «ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا» الإسراء 41. ولذلك فقد بكَّت الله -في مشهد رهيب من مشاهد يوم القيامة- أولئك الذين منحهم الله عمراً مديداً ووقتاً فسيحاً يمكنهم من التذكر والاعتبار والإيمان والعمل الصالح؛ ولكنهم أضاعوا تلك المنحة العظيمة من ربهم، وحين أدركوا تلك الخسارة الفادحة، حين فاتهم ذلك الوقت الثمين دون تذكر وإيمان وعمل، واستولى عليهم الندم حيث لا ينفع الندم، وقالوا في أسى وحسرة؛ وهم يصطرخون في جهنم كما جاء في قوله تعالى: «وهم يصطرخون فيه ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل» فيرد الله، صاحب العزة والجلال، عليهم مبينا مسؤوليتهم هم (أنفسهم) المباشرة عما هم فيه (الآن) من عذاب؛ ليزدادوا حسرة على حسراتهم: «أولم نعمركم (ما يتذكر فيه من تذكر) وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير» فاطر 37. إن ذلك التذكر الفاعل المستمر، في هذه الحياة،، الذي يوجه إليه بيان القرآن، هو الذي يحقق للإنسان الأمن في حياته وفي آخرته؛ كما قال تعالى: «وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يَلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» الأنعام 81-82؛ وأما المتذكر بعد فوات الأوان، بعد أن تقوم الساعة؛ فيقول الله عن حاله في تلك اللحظات العسيرة: «وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يقول يا ليتني قدمت لحياتي، فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد» الفجر 23-26؛ وفي الوقت نفسه، يقول الله -عز وجل-، عن حال المتذكر في وقت التذكر، بعد قيام الساعة: «يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي» الفجر 27-30. وللحديث صلة.