يهاب الإنسان الكتابة عن والده المتوفى، فالتعبير يُعْجِزُه والمشاعر الجيّاشة تعصف به مع كل خاطرة وذكرى يسطرها؛ ولكنها مسؤولية وواجب لا بد أن يقدم عليها. وأشارككم فيما يلي بلمحة عن مسيرة والدي -رحمه الله- مركزاً على البعد الإنساني الذي ميّز شخصيته، ومقتصراً على ذكر بعض الأعمال الأقرب لقلبه والتي يحمد الله عليها في خاصته. وكنت قد لازمته ومجلسه معظم حياتي، واكتب من واقع ما شهدته وعلمته. ينتمي -رحمه الله- لجيل طيّب عاصر تحول هذا المجتمع والبلد المبارك، من حالة الحاجة والمشقة إلى ما نحن عليه من نعم وخير. نشأ يتيماً، حيث توفي والده - الذي تَيَتَمَ صغيرا أيضا - بعد مولده بشهرين، وواجه حياة صعبة لبناء نفسه. عاش سنواته الأولى متنقلاً بين الغاط والرياض ثم القريات، حيث تدرج في التعليم إلى المرحلة المتوسطة، وعاد للرياض وأسس نفسه؛ ثم ذهب للحجاز مع الملك عبد العزيز -طيّب الله ثراه- وتنقّل بين مكةوجدة والطائف لفترة. وسافر للخارج وأقام فترات متفرّقة في لبنان ومصر وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقرأ أبرز الكتب والترجمات لمكتبات بيروت والقاهرة، مما شَكّلَ لديه وعياً وسعة أفق مبكراً في حياته. عُيَّنَ -رحمه الله- أميرًا لأملج بأمر سام في 22-3-1378ه بترشيح من الأمير عبد الله الفيصل -رحمه الله- (وزير الداخلية في حينه)، وفي وقت كانت الأوضاع والإمكانات بسيطة، واجتهد في أداء مهمته وتنمية أملج ونواحيها وتحسين أوضاع أهاليها. ومما يذكر في هذا، إنشاؤه عام 1379ه صندوقاً خيرياً تطوعياً يقدم إعانات شهرية للفقراء، تطور لاحقاً إلى جمعية خيرية؛ وسعيه سنوات لإقناع سكان المحلات المتفرّقة حول أملج بالنزول جنوب وشمال المدينة ليستفيدوا وتصلهم الخدمات، انتهت بموافقة وزير الداخلية (الملك فهد - رحمه الله) الكريمة عام 1385ه على اقتراحه مساعدة كل رب أسرة يرغب النزول بخمسمائة ريال وإنشاء وتوزيع مخططات سكنية عليهم، أصبحت اليوم أجزاء حيوية للمدينة. ومما يجدر ذكره، أنه كتب في شوال 1382ه للملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- (وكان وليًا للعهد وقتها) بوجهة نظره حيال مواجهة اضطراب أوضاع المنطقة بفعل التوسع والدعاية الناصرية والاشتراكية، مقدمًا ثلاثة مقترحات هي: إقامة مؤتمر يجمع الأحزاب والتنظيمات الإسلامية «للاطلاع أكثر على مرئياتها وما تعمل له»؛ التجنيد عبر استحداث قوات متطوّعة تختار وتدرب بعناية وتجمع عند الحاجة مع دعم جهاز الإعلام وتهيئة الرأي العام بشكل أكثر فعالية؛ التنبه من «اتجاه الطلاب للدراسات النظرية مما سينتج عنه زيادة عمّا تحتاجه البلاد منهم وبالتالي يتكون منهم كثير من العاطلين» وتوجيه السياسة التعليمية لجعل 75 % من الطلاب يتخصصون في المجالات العلمية والتطبيقية التي تحتاجها البلاد. وجاءت إجابة الفيصل الفذ خلال ثلاثة أشهر وبتوقيعه، ونصها: «حضرة المكرم نايف بن مساعد السديري، اطلعنا على كتابكم رقم... المتضمن ملاحظاتكم وقد أعجبنا بما جاء فيها وإذ نشكركم على ما أبديتموه نرغب أن توافونا دائماً بكل ما يبدو لكم من ملاحظات وسوف تكون موضع عنايتنا إن شاء الله». انتقل أميراً لينبع، بقرار مجلس الوزراء في 12-11-1389ه، وبترشيح الملك فهد (وزير الداخلية في حينه) الذي رأي دعم إمارة ينبع ومرتبتها وتعيينه عليها لكونه «من الأمراء الذين مارسوا طويلاً أعمال الإمارات بالإضافة إلى ثقة سموه فيه، حيث أنه كفوء لإشغال وظيفة أمير ينبع». وتابع في ينبع مسيرته العملية وهاجسه الإنساني والتنموي في حدود مسؤولياته، وفتح مجلسه لأهالي المنطقة حاضرة وبادية وبنى معهم جسورًا من العلاقات الطيّبة. كان -رحمه الله- يَبُتُ في حل مشاكل المواطنين والمنطقة ومعالجة احتياجاتها، ونظرته بعيده لتحقيق مرامي ولاة الأمر والدولة، يوظّف روح النظام والصلاحيات التي يتيحها له ولا توقفه شكلياته، ويكتب فيما يتطلب للمسؤولين مباشرة، وغالباً ما تحظى اقتراحاته بقبولهم الكريم وتصدر أوامرهم بتبنيها وتنفيذها. ومما يذكر عن بداية عمله بينبع، إيقافه البلدية عن إزالة محلات بأطراف المدينة نزلها بعض البادية طلباً للاستقرار وسبل المعيشة، بدعوى عشوائيتها وعدم وجود مستندات ملكية، وكتب لولاة الأمر بشأنهم وأنهم مواطنون محدودي الدخل ومستحقون، مقترحاً تخطيط جهاتهم وتمليكهم مواقعهم وتوزيع أراض على أمثالهم، وتمت الموافقة على مقترحاته وفتح ذلك بابًا لتملك الكثير مساكن وأراضي، وأضحت تلك المواقع اليوم أحياءً عامرةً في ينبع. ويجدر التنويه بأن إمارة ينبع وقتها كانت تراجع مباشرة وزير الداخلية، وكانت الشؤون البلدية وكالة تابعة لوزارة الداخلية. وحرص -رحمه الله - ما أمكنه على استفادة الأهالي والمنطقة من إنشاء الهيئة الملكية للجبيل وينبع، كالمستشفى والتوظيف والجوانب الاقتصادية، في رؤية تكاملية تفيد المنطقة وأبناءها ولا تؤثر سلباً على أعمال الهيئة وشركاتها. وكان ممن اقترح موقعها الحالي جنوب مدينة ينبع لحمايتها من أدخنة المصانع، وسعى لدى الأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله- لجعل موقع المطار شمال المدينة (وليس داخل الهيئة) لتشمل فوائده المدينة وأهاليها. كما كان حريصاً -رحمه الله- على إبراز المنطقة وأهاليها واحتياجاتهم عند زيارات المسؤولين لافتتاح مشاريع ينبع الصناعية. وقد استثمر وجود القيادة السعودية (الملك خالد -رحمه الله- وولي عهده والنائب الثاني) في زيارة لافتتاح مشاريع الهيئة بينبع نهاية عام 1400ه، وبيّن للملك «وجود بعض أبنائكم من البادية في مناطق وعرة شبه معزولة في أنحاء جبل رضوى وفي حاجة وحالة بدائية وظروف معيشية صعبة»، فأمر الملك فوراً بتشكيل لجنة خاصة برئاسة أمير ينبع ضمت مندوبي الوزارات المعنية وأسندت بطائرة مروحية لتقف ميدانياً على الوضع؛ وانتهت اللجنة باقتراح توصيات، صدر الأمر الكريم باعتمادها، وشملت استحداث عدة مراكز أنشئت فيها مدارس ومساجد ومستوصفات ووفرت الخدمات، وأنشئت ووزعت فيها وحدات سكنية لحوالي ألف أسرة، قدّم لهم أيضاً دعم مالي وقروض زراعية، ولتوطين الأهالي وتشجيعهم على تعليم أبنائهم خصصت مكافأة شهرية لكل طالب وطالبة تبلغ 450 ريالاً تصرف طوال العام (وهي الوحيدة التي تعرف بالاسم «إعانة طلاب منطقة جبل رضوى» في لائحة المكافآت والإعانات للتعليم العام)، وما زالت تصرف لهم إلى اليوم. واستمر بالكتابة المتكررة لولاة الأمر باقتراح المشاريع والمرافق التي تحتاجها منطقة ينبع والمطالبة باستكمال المقرر لها. وفي صفاته الشخصية، امتازَ -رحمه الله- بسعة صدره وتسامحه وتواضعه. لا يحمل ضغينة لأحد، ونادراً ما يغضب، وإن غضب لا يتطرف ولا يتلفظ، وسرعان ما ينسى. يتحامل على نفسه، ولا يُبَيِّنْ بحال ما يعانيه، ويحرص على أن يبدى لمن حوله وجه الراحة. لا تشغله الشكليات والصغائر. ما يأتيه ينفقه، وإذا جاءت الحاجة يتصرف بما يمكن، المهم أن يسدها؛ ولربما أتعبت طريقته الاقتصادي والمحاسب. وكان -رحمه الله- اجتماعي، يحرص على مخالطة الناس، ويحضر مناسباتهم ويستجيب لدعواتهم، وينزلهم مقاماتهم ويقدّر وجهاءهم وكبارهم، وفي ذات الوقت يحترم الجميع ويعاملهم إنسانياً دون تمييز. وتمتع بقدرة تلقائية، لا يشوبها تصنّع، على محادثة وملاطفة الكبير والصغير، ابن المدينة والبادية، المتعلّم وغير المتعلّم؛ وكان الجميع يرتاح له ويتفاعل معه. علاقاته بالرجال الذين عملوا معه وبجلسائه ومرافقيه وطيدة، يسودها المودة والتقدير والاحترام المتبادل، يحرص عليهم، ويميل للتباسط والمزاح معهم. كان عطوفاً جداً ببناته وأبنائه وأحفاده، يحادثهم ويعاملهم كأصدقاء لم يعرف عنه أنه عنّف أحدهم قط، وحظي بمحبتهم العارمة. كما أن لعائلته الممتدة مكانة خاصة لديه، يحفظ قدر كبارهم وصغارهم، ويُكِنُ لمن صاحبهم وِدُ خالص، لا يذكرهم إلا بابتسامة واحترام وخير. أشرف -رحمه الله- على التقاعد قبيل الغزو العراقي للكويت، إلا أنه وجد من واجبه طلب الاستمرار في العمل لحين انتهاء الأحداث، وبعد استقرار الوضع بفضل الله، أبدى رغبته التقاعد، وأمر المقام السامي في 17-4-1414ه «بالموافقة على إحالته للتقاعد حسب رغبته». واستمرت علاقاته الطيبة بأهالي ينبع وأملج محل تقديره، يذكرهم بالخير ويثني عليهم وعلى حسن ولائهم لقيادتهم ودولتهم. انتقل بعد تقاعده إلى الرياض وانشغل بمزرعته في الغاط. وواجه متاعب الكبر الصحية المعتادة، واستمر بصبر وعزيمة يمارس نشاطه واهتماماته، إلى أن توفاه الله بالمستشفى بالرياض مساء الثلاثاء 30-5-1440ه، عن عمر يناهز 93 عاماً (حيث كان مولده أواخر عام 1347ه). وكنت هاتفته ذلك المساء، وطمأنني كعادته مع المتصل - وبِنَفَسٍ متثاقل - بأنه طيّب وأوصاني بأمر؛ وبعد إنهائه المكالمة بوقت قصير، فوجئت باتصال مرافقه بأن أبي توقف تنفسه وتوفي فور انتهاء تلك المحادثة بدقائق، رحمه الله رحمة واسعة. وكان للفتة خادم الحرمين الشريفين الكريمة -أيّده الله رغم مشاغله- بالتعزية هاتفياً خلال ساعات من وفاة الفقيد، وطلب قدوم أبنائه وأداء صلاة الجمعة في قصره العامر بالدرعية، بالغ الأثر في مواساتهم. كما خفف من مصابهم تعزية الأمراء الكرام، يتقدمهم الأمير أحمد بن عبد العزيز -حفظه الله- وكلامه الطيب عن الفقيد. وغمر أسرة الفقيد الإخوة الفضلاء من داخل وخارج المملكة بمشاعرهم النبيلة، فلهم التقدير والشكر لكريم تعزيتهم ومواساتهم. وقد ترددت بين المعزين عبارة أن الفقيد «مات ما زَعَّل أحد ولا ضَرَّ أحد». رحم الله أموات المسلمين وغفر لهم، ورحمك الله يا نايف. ** **