فرحت كما العديد من السعوديين بقرار وزارة التعليم باعتماد تدريس الفلسفة بمناهج التعليم العام، فالفلسفة هي أم العلوم البشرية وأساسها، بدءاً من العلوم الإنسانية وانتهاءً بالعلوم الطبيعية كالرياضيات والفيزياء والهندسة وغيرها. فالفلسفة تساهم وبشكل فاعل في تأسيس الفكر التحليلي والناقد في العقلية البشرية ولا شك بذلك. لكنني بالمقابل تفاجأت من كم الفرح الذي استقبل به البعض هذا القرار وكأن تدريس الفلسفة سيقوم وحده بخلق وتأسيس عقليات تحليلية ناقدة في الأجيال القادمة لدينا، متناسين أن المنهج العلمي لا يرتكز على مضامينه فقط بقدر ارتكازه على طرائق التدريس التي يتم من خلالها إيصال المعلومة للطالب، ومن ثم تقييم مدى استيعابه لها. ولو كان وجود المنهج العلمي كافياً وحدة في إنجاز الفرق لوجدنا لدينا عشرات العلماء والمخترعين في الرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية التي يتم تدريسها في الوطن العربي منذ عقود دون أن تنتج شيئاً محلياً ذا قيمة بسبب طرائق التدريس التلقينية التي أخرجت ولا تزال مخرجات تعليمية ضعيفة مقارنة ببقية الأمم التي تدرس لأبنائها ذات المناهج تقريباً ولكن بطرق تدريس مختلف. وتدريس الفلسفة وإن كان جديداً علينا في السعودية فإنه لم يكن كذلك في معظم الدول العربية، فمناهج الفلسفة موجودة في بعض هذه الدول منذ عقود طويلة، ولقد اطلعت وقرأت شخصياً في بعض مناهج الفلسفة لهذه الدول ووجدت بعضها رائع كمنهج دراسي وفيه الكثير من التأريخ للفلسفة وللفكر والتأسيس للنقد والتحليل. مع ذلك لم تخلق مجتمعات هذه الدول من وطننا العربي عقلاً ناقداً ومحللاً نستطيع أن نلمس فيه فرقاً واضحاً عن العقل العربي الذي لم يدرس مناهج الفلسفة كما نحن، لأسباب عديدة متداخلة سياسية واجتماعية ودينية وتعليمية ... إلخ. والتي يبقى أهمها برأيي هي طريقة التعليم التلقيني الذي يتم من خلالها تدريس الفلسفة التي ترتكز في أصلها على محاربة التلقين والتوجيه وتطلق الحرية للعقل للتأمل والنقد والتحليل. لا شك بأن آلية وطريقة التفكير تسبق التفكير، ولا شك بأن آلية التفكير تقوم بصناعتها المجتمعات في عقلية أفرادها من خلال الطرق التي تُكسبهم فيها المعارف الحياتية والتي يأتي على رأسها وأهمها التعليم المباشر. وتعليمنا في الوطن العربي بمجمله هو تعليم تلقيني. والتعليم التلقيني لا يغذي عقلاً بل يعطّله، فهو لا يمنح للعقل البشري آفاق واسعة من التأمل والتدقيق والحرية. ولذلك فإن مخرجاتنا التعليمية هي مخرجات مهنية بحتة وليست معرفية ولا فكرية بالمطلق ، وبالتالي من البديهي بأن لا يكون ثمة فرق بين المتعلم وغير المتعلم من حيث ماهية التفكير وآلياته ولا من حيث السلوك وطرائق المعيشة داخل المجتمع لدينا.. فعقلية وأفكار ومعتقدات واهتمامات المتعلم والجاهل واحدة لدينا وإن تغير المظهر الخارجي والقاموس اللغوي المستخدم بينهما. نعم، فرحت ولا زلت بقرار تدريس الفلسفة لأنه كسر (التابو) الذي تأطر لدينا من العقل ومن النقد بعد أن تم ربطها لقرون طويلة بالكفر والزندقة، لكنني لا أتأمل مخرجاً معرفياً مهماً لهذا التدريس في ظل سياسة التعليم التلقيني لدينا. ** ** **