الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها باريس والعديد من المدن في فرنسا منذ يوم 17 نوفمبر الماضي، التي تمثلت في مظاهرات واسعة، شارك فيها عشرات الألوف، وقادتها مجموعات، أطلق عليها «أصحاب السترات الصفراء»، وهم مجمعات غير متجانسة من حيث منحدراتها الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، كما شملت المهمشين وأصحاب الدخول المتدنية.. جذب هذا الحراك غير المسبوق فيها شرائح وفئات، تنتمي إلى التيار اليميني الشعبوي واليسار الراديكالي على حد سواء؛ وذلك احتجاجًا على زيادة بعض أنواع الوقود، لكن ومع تزايد أعداد المتظاهرين وصلت المطالب إلى 40 مطلبًا.. وجاء في مقال نشرته صحيفة «لوجورنال ديمانش» للمتحدثين باسم «السترات الصفراء» ما يأتي: «نريد أن نعرف إلى أين تذهب الضرائب، وأين يتم استخدامها، ونطلب تنظيم مؤتمر وطني اجتماعي ومناقشات إقليمية حول الأراضي والتنقل، وتنظيم استفتاءات بشكل منتظم حول المسائل الاجتماعية والمجتمعية في البلاد، واعتماد التمثيل النسبي في الانتخابات التشريعية من أجل تمثيل برلماني أفضل للمواطنين». قابلت الحكومة الفرنسية تلك الاحتجاجات في البداية بتجاهل وإصرار على تنفيذ حزمة من الإجراءات الحكومية، تشمل رفع الأسعار وزيادة الضرائب على الفئات المتوسطة والدنيا، وهو ما اعتبره المحتجون أنه يصب في صالح طبقة الأثرياء والشركات والمصارف والبنوك الكبرى.. وصرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: «لن نقدم أي تنازلات لمثيري الفوضى؛ لأن ذلك سيضع المخربين والفوضويين على قدم المساواة مع المواطنين الذين يعبِّرون عن رأيهم بطريقة سلمية». في حين صرح وزير الداخلية الفرنسي: «ندرس جميع الإجراءات التي تسمح لنا بضمان نشر الأمن في البلاد، لا محرمات عندي، ونحن مستعدون لاتخاذ الإجراءات جميعًا ضد مثيري الشغب والانقسام. وهناك نحو تسعين ألف شرطي، بينهم 4600 عنصر منتشرون في العاصمة باريس للسيطرة على أعمال العنف». غير أنه ومع إصرار المتظاهرين على مطالبهم وجد «ماكرون» نفسه في مأزق يتعلق بمستقبله السياسي؛ إذ انخفضت قاعدة شعبيته - حسب استطلاعات الرأي العام إلى (26 %) - وهي مرشحة للانخفاض فيما لو أصر على مواقفه. علمًا بأن مجيئه القوي والمفاجئ للسلطة الذي كان على حساب الطبقة السياسية التقليدية الممثلة في الجمهوريين والاشتراكيين عكس استمرار الأزمة العميقة التي تعصف بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الفرنسي؛ وبالتالي لم يكن حلاً لها. لقد وصل ارتفاع معدل البطالة إلى (9.1 %)، وانخفض معدل النمو الاقتصادي إلى (1.6 %)، كما لم يحقق أي من وعوده الانتخابية بتطوير وتقوية النشاط الاقتصادي، وتحسين مستويات معيشة الغالبية الساحقة من الفرنسيين، بل كان جل انشغاله يصب في خدمة مصالح الشركات وكبار رجال المال والأعمال وفقًا «لليبرالية الجديدة» السائدة في فرنسا على غرار الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء. في ظل استمرار المظاهرات قررت الحكومة الفرنسية تعليق الزيادات لمدة ستة أشهر، وهو الأمر الذي يعني الانصياع لضغط الاحتجاجات الشعبية التي تحظى -وفقًا لمراكز المسح- بتأييد 72 % من الفرنسيين. وفي الواقع تدرجت تلك المطالب الاقتصادية؛ لتتحول إلى نقد ومحاكمة للمنظومة الاقتصادية والسياسية الفرنسية كلها. تاريخيًّا درج منظرو «الليبرالية الجديدة»، وطيلة قرابة أربعة عقود، على الترويج لترسيخ المبادئ الليبرالية الاقتصادية، وتحرير الأسواق (المال، السلع، الخدمات) وفقًا لقوانينها الغابية المنفلتة من أية قيود أو تشريعات حكومية تحد من تغولها. الليبرالية الجديدة هي الطبعة المنقحة لليبرالية الكلاسيكية التي ظهرت منذ أواسط القرن الثامن عشر، وسادت طيلة القرن التاسع عشر.. ومن أبرز منظِّريها آدم سميث وديفيد ريكاردو، التي تؤكدها فكرة «اليد الخفية» التي طرحها آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» الصادر في 1776م. ويعتبر الكتاب من المؤلفات الاقتصادية الكلاسيكية، بل يعد بمنزلة إنجيل لليبرالية الاقتصادية، وخصوصًا فكرة «اليد الخفية» التي تُعتبر التجسيد الفلسفي لشعار «دعه يمر، دعه يعمل» التي تبنتها اللوثرية المسيحية في إطار سعيها لترسيخ أسس الإصلاح الديني، ومواجهة سلطتَي النظام الإقطاعي والكنيسة، وصولاً إلى التحرير المادي والروحي للفرد من تسلطهما. تقوم فكرة «اليد الخفية» التي طرحها آدم سميث على الإدارة الذاتية للسوق بعيدًا عن تدخُّل الدولة؛ لأن هناك -وفقًا لما يقول- توافقًا طبيعيًّا بين المصالح المتضاربة في المجتمع؛ إذ يعمل أصحاب الأعمال والعمال والمستهلكون نحو تحقيق مصالحهم الشخصية، ولكن قوى السوق تضمن توافق تلك المصالح؛ فالعمل التجاري الحر يحقق ربحًا من خلال ما يرغب المستهلك في شرائه. كما أن «اليد الخفية» قادرة على مواجهة المشكلات والأزمات الاقتصادية الدورية للرأسمالية، مثل البطالة والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات، من خلال آليات السوق. للحديث صلة.