كلنا سنموت، ولا ندري على أي حال نموت، ولكن لا أحد يتمنى لعدوه أن يقطّع إلى أشلاء، فكيف نقبله لمواطن في قنصلية بلده؟ الملك وولي عهده ووزير الخارجية دانوا بأشد العبارات هذا الإجراء المؤسف والمحزن والبشع، وكذلك فعل الشعب السعودي كافة. وهنا يكون السؤال: هل كان جمال خاشقجي - رحمه الله- صحفياً مشاغباً ينبغي احتواؤه، أم عدواً للمملكة يجب قتله؟ الجواب عن هذا السؤال قاطع بإقامة صلاة الغائب عليه في الحرمين الشريفين، ولو كان عدواً لبلاده لما سمح بالصلاة عليه فيهما، أسوة بأعداء المملكة من الإرهابيين السعوديين الذين قتلهم الأمن السعودي أو قوات أمن الدول المشاركة في الحملة العالمية على الإرهاب. فكيف زيّن الشيطان للمتهمين أن يقتلوه ويمثِّلوا بجثته؟ ضاربين بعرض الحائط الدين والأخلاق والمشاعر الإنسانية وأوامر رؤسائهم. الأجوبة عن هذا السؤال وغيره جاءت شفافة على لسان المتحدث باسم النيابة العامة السيد شلعان الشلعان الذي أعلن نتائج تحقيقات النيابة العامة السعودية، ومنها أن قائد فريق التفاوض صوّر له خياله الخبيث أن جمال يستحق هذا المصير، ومن ثم ارتكب هذه الجريمة البشعة والمؤسفة بقرار قدحه من رأسه المريض. النتائج المعلنة في بيان النيابة العامة تؤكّد أن السعودية جادة كل الجد في التحقيق في كل ما يبثه الإعلام من تسريبات، وفي كل ما يصل النيابة العامة من الجانب التركي الرسمي. وعلى هذا الأساس فإنه يمكن القول بأن التحقيق يتطور مع كل معلومة جديدة تظهر بطريقة أو بأخرى. فأي محقق يصعب عليه الحصول على إجابات لأسئلة لم تطرح، ولا يمكن طرح سؤال بدون معلومة. ويبدو أن الجانب التركي لديه معلومات كثيرة لم تصل إلى السعوديين بعد، ولذلك فإن من يلمزون ويهمزون تعدد البيانات السعودية عليهم أن ينظروا في تدفق التسريبات المحملة بمعلومات تُؤخذ بجدية ويتم مواجهة المتهمين بها وإعلان أي تطابق بينها وبين ما يحصلون عليه من المتهمين، ولذا فإن بيان النائب العام قد لا يكون الأخير. ولا يبدو لي أن المسؤولين الأمنيين في تركيا سيكونون في وضع مريح مع استمرار التسريبات، فكل معلومة ترشح للإعلام إنما تطرح تساؤلات مشروعة عن براءة تلك الأجهزة من دم جمال خاشقجي. ولن أسأل عن كيفية الحصول على تلك المعلومات، ولكنني أسأل عن عدم الاستفادة منها في منع حدوث الجريمة؟ المنطق يقول ما دام معلومات الجريمة بتفاصيلها في حوزة المسؤولين الأتراك، فلا ريب أنهم على اطلاع بها قبل تنفيذها، ومرة أخرى لن أسأل كيف وصلت. ولكن السؤال هو: لماذا لم يتم إيقاف هذه الجريمة؟ الأجهزة الأمنية التركية التي تتلقى هذه المعلومات كانت قادرة على منع جمال خاشقجي من التوجه إلى القنصلية، أو استدعاء القنصل أو حتى منع الدخول والخروج من القنصلية قبل ساعة الجريمة. هذه الأسئلة تجعل القيادة التركية العليا مرشحة للتعرض للتضليل نفسه الذي تعرضت له القيادة السعودية، وحتى يتم دفع الشبهة عن تورط أجهزة أو أفراد أتراك يكون لزاماً على توسيع دائرة التحقيق للتعرّف على أولئك المسؤولين الذين علموا باحتمال وقوع الجريمة ولم يمنعوها، إنهم على أية حال في الجرم سواء مع الزمرة التي ارتكبتها. لاريب أن بيان النيابة العامة السعودية مقنع لمن يبحث عن الحقيقة، ولكنه بكل تأكيد لا يحقق أمنيات من يسعون لتسييسها. الاستسلام لشهية الإعلام المفتوحة، والرهان على تسييس الجريمة بسيل لا يتوقف من التسريبات يعطي زخماً شعبوياً تصعب مقاومته، ولكن التحقيق المهني في هذه الجريمة هو الذي سيظهر الحقيقة من أجل جمال - رحمه الله- ومن أجل العدالة. يجب احترام ذكاء الرأي العام العالمي؛ فعندما يسخّر الإعلام المعادي للمملكة هذه التغطيات المكثفة لتشويه سمعة المملكة واستهداف أمنها واستقرارها، واستدعاء أجندات سياسية غير خافية، فإنه قد ينجح على المدى القصير وبخاصة مع من يشاركونه تلك المقاصد، ولكنه مع الوقت سوف يكشف حجم المؤامرة على المملكة العربية السعودية، وسيعود الرأي العام إلى التوازن الذي يرفض الاستهداف السياسي غير المبرر، وعندها تسقط الرهانات الخاسرة وتبقى المملكة.