شاع بين كثير من الباحثين والأكاديميين إلى حد يشبه الإجماع أن الدولة السعودية بدأت قبل ثلاثة قرون مرتبطة بالدعوة السلفية المباركة بجعل الاتفاق التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب عام 1157ه هو تاريخ تأسيس الدولة السعودية الأولى المتعارف عليه. دون أن يشعر أولئك الباحثون، وهم أصحاب جهود كبيرة ومنجزات مهمة، أنهم تأثروا دون أن يشعروا بمؤرخي الدعوة السلفية في ذلك، مستبعدين إرثًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا كبيراً، آن الأوان لإعادة اكتشافه. لذلك تهدف هذه المقالة إلى طرح مقترح حول إعادة تفعيل التعامل مع القرون الثلاثة التي سبقت التاريخ المتعارف عليه، بوصفها خبرات تراكمية محلية وتاريخًا سياسيًا واجتماعيًا متكامل الأركان، وليست مقدمة تمهيدية، كما هو في الدراسات المعاصرة حاليًا، وذلك من أجل بناء إستراتيجيات لفهم التاريخ السعودي من جديد بشكل يخدم الحاضر، ويستلهم من تراثه للمستقبل، مع الاستفادة القصوى من المعلومات المتاحة، وإن كانت قليلة. إن ظهور الدعوة السلفية مرحلة تاريخية في غاية الأهمية، ولها فضل كبير ونتائج حميدة، وأسهمت في إعادة اكتشاف الدولة، ولكن كان قبلها مراحل مهمة، وجاء بعدها مراحل مهمة، وهذه من طبيعة تواريخ الشعوب. ومن المهم عدم التوقف عند أي مرحلة تاريخية قبل إعادة فحصها واختبار فرضيات تأثيرها على حاضرنا ومستقبلنا. فالتاريخ ما لم ينغرس في عمق الواقع، ويمهد لفهم المستقبل، فهو حكايا وسرد. الميت يهيمن على الحي يقصد بعبارة «الميت يهيمن على الحي» (وقد استلهمت جانب منها من مقالة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، كما ستأتي) في هذه المقالة أن المؤرخين السابقين أسسوا لمعلومات بوصفها حقائق تاريخية ووضعوها في سياقات محددة، ولم يتحرر منها المؤرّخون المعاصرون ولا المؤسسات البحثية والجمعيات المتخصصة في التاريخ، وإنما بذلوا جهودهم الأكاديمية والبحثية من أجل صناعة تاريخ متسق مع ما تأسسوا عليه، من تهميش المراحل التي همشها من قبلهم، أو تعظيم مراحل عظمها من كان قبلهم، ومن هنا اخترت هذه العبارة لألفت الانتباه إلى أن كثيرًا من المؤرخين المعاصرين يقعون ضحية التسليم بالمسار المحدد لهم مسبقاً والذي حدده، في موضوع هذه المقال كمثال، المؤرخون الرواد مثل: ابن غنام وابن بشر ومن بعدهم، وقد ناقشوهم في تفاصيل كثيرة، ولكن لم يناقشهم احد في أسس مدرستهم الفكرية التي تمركزت في التقليل من شأن التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي قبل القرن الثاني عشر الهجري. الهابيتوس السعودي يمكن دراسة المراحل التي سبقت القرن الثاني عشر الهجري بالاستعانة بنظرية الهابيتوس Habitus. وهي من النظريات الاجتماعية الحديثة، وقد ارتبطت ببورديو، ويقصد بها باختصار وتبسيط، أن تفاعلات الإنسان العادي في الحياة اليومية، والممارسات الاجتماعية في السياسة والاقتصاد والثقافة بمفهومها الواسع، ترجع إلى مجموعة عوامل أسهمت في تشكيل سلوكه وأفكاره وردود أفعاله. يتكون الهابيتوس من مجموعة استعدادات ذهنية وتاريخية، وهو يتشكل من عناصر لا تنفصل، من أهمها: التنشئة الاجتماعية، وتجارب تاريخ المجتمع والأسرة والقبيلة، التي قد يعود بعضها إلى حقب من العصر الوسيط، والخبرات الشخصية، وينغرس بعضها في اللاوعي الجمعي ويتم توارث الأفكار والأفعال عبر الأجيال إما بوعي وهي العادات والتقاليد وإما في اللاوعي وتسمى هذه العملية بالهابيتوس. صدر لبورديو مقالة باللغة الفرنسية بعنوان «عندما يتقمص الميت روح الحي: التاريخ في حالته المتجسدة والتاريخ في حالته المدرجة»، فكَّك فيها آليات تحرك التاريخ الاجتماعي وانصهار كثير من ممارساته في حياة الأجيال يتناقلونها دون وعي من الناقل ومن المنقول إليه. فالتاريخ إذن، هو أحد صنّاع الحاضر، يقول فردريك معتوق: «إن المكوّن الأول للهابيتوس هو التاريخ الاجتماعي... يضيف بورديو أن المكون الموروث في الهابيتوس يتلازم على الدوام مع مكون آخر هو مسارات الحياة العملية، فالحياة اليومية والعملية تدفعنا إلى اختيار استعداداتنا المستخلصة من تجارب مجتمعنا ومن تجاربنا نحن السابقة، عبر إعادة إنتاجها من جديد» (فردريك معتوق، الهابيتوس العربي العنيد والعتيد، مجلة عمران، عدد 12، 2015 ص 141). ويمكن تحديد عمل الهابيتوس بدقة أكثر تحديداً، في أنه نظام فكري لدى الإنسان، يوجه ممارساته وقيمه بقوة أحداث تاريخية مترسخة في لاوعي المجتمع، وتأثيره أقوى من تأثير التعليمات المباشرة التي تحظى برقابة وتتمتع بحصانة، يقول بورديو: «إن تفكيري كله ينطلق من هذه النقطة: كيف يمكن للسلوك أن يكون محكوماً من دون أن يكون ناتجاً عن مجرد الانصياع للقواعد؟» (كارل ماتون، مفهوم الهابيتوس عن بيير بورديو، ص 14). وهذا يؤكد على أن التاريخ حاضر في لاوعي أفراد المجتمع حين يرسمون استراتيجياتهم، بحسب مرجعيتهم الثقافية ومنطقتهم الجغرافية، للتعامل مع المواقف وفق مصالحهم، بحيث تجمع بين تحقيق مصالح الفرد مع احتفاظها بثقافة المجتمع ومراعاتها لتقاليده. يمكن تحليل هابيتوس العائلة السعودية الحاكمة، كنموذج بوصفها تأسست فعلياً عام 850ه، بأنها أسرة ملكية لها تقاليد في الحكم، وأن مناصرة الإمام محمد بن سعود لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية كانت مرحلة تاريخية مهمة يسبقها مراحل وجاء بعدها مراحل بذات الأهمية، وهي منطلقة من مبدأ الاستقلالية وعدم الخضوع لحكام بني خالد في الأحساء، الذين كان لهم نفوذ على كثير من الإمارات القوية في نجد آنذاك، وهي تدل على هابيتوس عريق في السيادة، لذلك يتميز آل سعود بوجود تقاليد وكاريزما تاريخية حافظت على كيانها والسرعة في استعادة مكانتها إذا تعرضت للأزمات، فهي دولة تتوسع سياسياً وجغرافياً منذ عام 850- 1157ه، واحتضنت حينها الدرعية علماء كبارًا، وأنشأت مؤسسات عامة كالمساجد والأسواق وبيت الإمارة. ومع أن الدولة السعودية ضعفت وتلاشى نفوذها مرتين، إلا أنه عادت الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي، والدولة الثالثة على يد الملك عبدالعزيز بقوة الهابيتوس التاريخي والسياسي، وبدعم مجتمعي كبير، دون الحاجة إلى دعم أي حليف ديني أو سياسي. في حين لا يتحقق ذلك في أي مجتمع عربي الذي يلزم وجود من يدعم عودة أي أسرة للحكم، أو البيوتات الحاكمة التي لا تعود بعد سقوطها، مما يدل على أن عراقة الأسرة في الملك والقيادة أسهمت في غرس مكانتهم في لاوعي المجتمع الذي سكن أرض المملكة العربية السعودية. الحقب التاريخية التي تكون منها الهابيتوس مر المجتمع السعودي بأربع حقب تاريخية طويلة غرست ثقافتها وبنت تقاليدها في العقل الجمعي، في وعيه وفي لاوعيه، وصارت تؤثر في المجتمع بقوة التاريخ، وهي المكونات التي تشكل منها الهابيتوس، منهما حقبتان لهما تأثير واضح وصريح في إنتاج هابيتوس اجتماعي جديد، وهما ظهور الإسلام، والدعوة السلفية، تمثل في بروز المظاهر الدينية في ممارسات الحياة اليومية. وحقبتان تأثيرهما كبير، ولكن لم يحظ ذلك بالدراسات الكافية. وذلك كما يلي: الحقبة الأولى: تتمثَّل في تاريخ المنطقة القديم وحتى زمن ما قبل الإسلام، ومن ملامح مكونات هابيتوس هذه الحقبة: البنية الاجتماعية للقبيلة والأسرة والقرابة، وأنظمة الحكم القبلية، واستئناس إنسان البادية للإبل، وقدرة إنسان المدينة أن يكتشف أهمية النخل بالنسبة لاقتصاده وغذائه، كما أن الحقبة التاريخية التي سبقت ظهور الإسلام ما تزال إرثاً جغرافياً ومنتجاً أدبياً يقع على أراضي المملكة، وكثير من قبائل المجتمع هي من ذرية تلك القبائل، وهذا سبب لدراسة الماضي البعيد والتعرف على مكوناته التي اختفت وأعاد المجتمع إنتاجها بشكل جديد. الحقبة الثانية: تتمثل في العصر الوسيط، ويقصد به الحقبة الزمنية التي سيقت ظهور الدعوة السلفية، فالهابيتوس، أو قوة التأثير التاريخية أنتجت هوية المجتمع من خلال عادات وتقاليد ومنظومة قيم فرضتها الظروف البيئية والتغيرات المناخية ما يزال أثرها مهيمناً حتى الآن، وقد شهدت هذه الحقبة التاريخية حراكاً ثلاثي الاتجاه هي التي صنعت وعينا، وحددت واقعنا المعاصر، تمثل في الحراك السياسي، والحراك الاجتماعي للحاضرة وللبادية. ومن ثم فإن الحقبة التاريخية بين عامي 850- 1157ه، يمكن عدها بداية تاريخنا الحديث، ومنجم هويتنا الاجتماعي والسياسي الذي استطاعت الفئات الاجتماعية والسياسية أن تبني خبراتها من خلاله. وملخص هذا الحراك كما يلي: أولاً: البيوتات الحاكمة تأسست الدولة السعودية وسط منافسات شديدة قامت بها مجموعة إمارات امتد نفوذها ما بين نجد وشرقي جزيرة العرب أو الخليج العربي، فهي إما إمارات تأسست في الخليج ولها نفوذ على نجد، أو أسر نجدية نزحت للخليج، وشكلت إمارات هناك، وهي: الدولة العيونية (تأسست في البحرين وحكمت بين عامي 467- 636ه/ 1074- 1238م)، والدولة العصفورية (حكمت بين عامي 650- 840ه تقريباً)، والدولة الجبرية (حكمت بين عامي 850- 932ه تقريباً)، ثم دولة آل حميد من بني خالد، والدول المتحدرة من حلف العتوب. وقامت محاولات تأسيس إمارات محلية في داخل نجد، استطاعت أن تبني خبراتها السياسية من داخلها، ولم تخضع لأيٍّ من الإمارات التي تأسست في الخليج، كان أهمها إمارة آل سعود في الدرعية بمنطقة نجد التي بدأت نشاطها السياسي عام 850ه، وتعاقب عليها عدد من الأمراء الأقوياء الذين وسعوا من حدود إمارتهم، وتكمن ريادة الإمام محمد بن سعود في بناء سلطة سياسية مركزية. ثانياً: نشأة البلدان ترتبط هوية المجتمع وبداية نشوء عاداته وتقاليده في حالة استقراره، وبناؤه للبلدان وممارسة حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأمنية بطريقة مستقرة، وفي المدة ما بين عامي (600- 1157ه) نشأ في نجد أربعين بلداً تقريباً، بحسب توثيق التواريخ المحلية مثل: عبدالله بن بسام وإبراهيم بن عيسى. وهذا الحراك الاجتماعي العمراني المتسارع في الفترة الأولى يسجل معدلاً عالياً في نسبة استيطان ونشأة المدن ونموها. وتركزت حالات عمران البلدان في إعادة إعمار بلدان خربت، أو تأسيس بلدان جديدة. ثالثاً: تحالف القبائل البدوية تعد القبيلة أحد أهم مكونات المجتمع في جزيرة العرب منذ آلاف السنين، وهي تنشأ فتضعف فيعاد إنتاجها مرة أخرى بالتحالفات، ولكنها لا تندثر. وقد شهد القرنين السابع والثامن الهجريين ظهور قبائل بدوية جديدة، حلت محل القبائل البدوية النجدية التي كانت معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام، مثل: قبائل نمير وقشير وجعدة وباهلة وبنو كلاب...، وقد جاءت القبائل البدوية في العصر الوسيط على مرحلتين، إذ تشكلت المرحلة الأولى من قبائل: عنزة وزعب وبني لام (الكثران والفضول وآل مغيرة والظفير)، وقد تحضر في عدد من بلدان نجد كثير من أسرها، وتحالف بعض بطونها مع قبائل جديدة، وهاجر البقية إلى العراق. والمرحلة الثانية جاءت على شكل نزوح قبلي إلى نجد من قبائل الجنوب والغرب والشمال، وذلك لجودة المراعي ووفرة المياه، ووجود مساحات شاسعة تضمن التنقل بحرية، بالإضافة إلى شعور القبائل بوجود بيئة آمنة للانتقال. وتشكلت القبائل البدوية المعاصرة، مثل: قحطان والدواسر ومطير... وهي القبائل البدوية التي استطاعت أن تحدد هويتها من خلال توارث العادات وسلوم القبيلة وأعرافها. تشكلت الحقبة الثالثة من الهابيتوس من الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة في صدر الإسلام حتى عام 450ه، وهو تاريخ انتهاء حكم الدولة الأخيضرية في نجد الذي استمر مئتي سنة تقريباً. وتشكلت الحقبة الرابعة من الهابيتوس بالخبرات الطويلة التي بنتها هذه المؤسسات الثلاث، وهي: البيوتات السياسية، ونشأة البلدان، وتحالفات القبائل البدوية، وهي الحقبة التي أنتجت جوهر واقعنا المعاصر الذي نعيشه الآن. أخيراً إن مراجعة التاريخ المحلي الآن هو جزء لا يتجزأ من تعزيز الهوية الوطنية، ومراجعة الحقب الزمنية الطويلة، وفحص الحياة اليومية فيها، وعدم التوقف عند حقبة بعينها، أو التركيز على دراسة الأوضاع العامة والبناءات الكبرى، وذلك من أجل بناء مجتمع متكامل قادر على الاستجابة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وبرامج التحول الوطني؛ وذلك لأن المجتمع يصعب عليه القطيعة المعرفية مع تاريخه وتراثه، ولذلك من المهم مراجعة هذا التاريخ والتراث وتنقيته من بعض المغالطات ودعمه بما يعزز قيم الإنجاز والمشاركة الإيجابية في الحياة العامة وحماية التاريخ من التحقير والانتقاص بوصفه هوية المجتمع وأساس ثقافته. ** ** د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير - دكتوراه علم اجتماع المعرفة، ومؤرِّخ