«روحٌ شفافة، وذوقٌ أخلاقيٌّ رفيع، ومنطقٌ حلوٌ رائق، وصوتٌ خفيضٌ رفيق، وقلبٌ لا يشيخ، ومشاعر دافئة حساسة، ودمعةٌ سريعةُ الهُمُوْل، وأبوةٌ حانيةٌ على التلاميذ، وعلمٌ جمٌ غزير، وزهدٌ في الأضواء ... هذا غيضٌ من فيض صفاتِ أستاذنا رحمه الله».. هذه تغريدةٌ غرّدتُ بها في فضاء (تويتر) عَقيبَ وفاة أستاذنا الدكتور/ عبدالعزيز الزير رحمه الله، وكانت مشاعرُ الحزنِ حينها تجيش في نفسي، وأرغبُ في التعبير عنها فيَنْفَرِطُ عقْدُ الكلام، وتتناثر الكلماتُ أمامي فلا أقدر على نظمها في عقْدٍ متناسقٍ من الكلمات والعبارات، وما ذاك إلا أن فاجعة الفقد بعثرتْ طمأنينة النفس، وبددتْ وداعة الروح، فتبعثرت معها الكلمات، وتبددت بإزائها العبارات، وكان أن انتظمت التغريدةُ على شكل نعوتٍ متتابعة تأبى روابط الكلم المنطقية، تماماً كما كان يتتابع علينا غيثٌ مدرار من فضائل أخلاق الفقيد حين كنا نلقاه مستظلين في دوحته، فلا نعرف رابطاً منطقياً لدوام ابتسامته لنا، أو لدماثة خلقه معنا، إلا حسن محتده، ونقاء معدنه. كان يوماً حزيناً ذلك اليوم الذي نُعِيَ فيه أستاذنا. لم تكد عيناي تصدّق خبر وفاته حتى رأيت المعزين يتراسلون النعي والمواساة! كان خبراً مبعثِراً لي، فاجعاً، مفزعاً، مُشْعِراً بالوحشة، مُفْقِداً للأنس، ولمشاعر حانية لطالما تدفأتُ بها، وتدثرتُ بمعاطفها متّقياً بها صقيع المشاعر، وبرودة الأحاسيس. إننا لم نفقد بفقده أستاذاً فريداً، وعالماً متميزاً فحسب؛ بل فقدنا روحاً شفافةً عذبة، وخُلُقَاً سامياً نيّراً، وطبعاً كريماً، ونفساً معطاءة، ولساناً يقطر شهداً من طَيّب القول علماً يُغيث به التلاميذ، أو خبرةً حياتية عملية يفيد بها مجالسيه، أو حلاً لمعضلةٍ تواجهها الكلية، أو علاجاً لمشكلةٍ يمر بها أحد طلابه. إنه -رحمه الله- كالغيث أينما حل نفع! كان مهتماً بالمهمومين من الأصحاب والطلاب، متعاطفاً معهم، راغباً في حل مشاكلهم، وكثيراً ما كان يخفي هذا التعاطف، وربما يعلنه حين لا يقدر على حل المشكلة، وتضيق جوانح نفسه المرهفة عن التحمّل ! إن من أهم مناقب فقيدنا تفضيله استبقاء الود مع الآخرين على إثبات صحة آرائه، وهذا من عِظم نفسه، وبعد نظره رحمه الله؛ فقد أَدْرَكَ وهو المُحَنَّكُ بالتجارب، أنّ المجد للأخلاق، وأنّ ديمومة الذِكر هي لأصحابها، لا إلى أصحاب الفذلكات العلمية والكلامية، وكثيراً ما كان يقول رأيه حين يحتدم النقاش حول قضية ما ويمضي، دون أن يُشعِر أطرافَ النقاش بالمناكفة، ثُم ينفضّون عن مجلس النقاش، وينجلي غباره عن بركةِ الرأي الذي قاله الأستاذ ! إنّ من يعرف الفقيد جيداً يُدرك أنه هاضمٌ لنفسه، منكرٌ لها، وهو من هو في ثقافته الموسوعية التي يعرفها من اعتاد مجالسته والأخذ عنه، فضلاً عن ثقافته الأدبية والشعرية ! إنه لم يكن ساعياً لتحقيق مجدٍ شخصي قدر سعيه لتأسيس جيلٍ من الطلاب محبٍ للغة العربية وآدابها. كان يطير فرحاً حين يخبره أحد طلابه بكتابة قصيدة، أو صياغة قصة، أو تحرير مقالة، ولا يكتفي بذلك؛ بل يطلب من الطالب إرسالها إلى بريده الشبكي لقراءتها، والتعليق عليها إرشاداً وتشجيعاً. وبعد؛ فإن الكلمات تتقاصر عن أن تبلغ حق الفقيد في وصف شمائله، وتبيان فضائله، ولعل دعواتنا المستمرة له بالرحمة والمغفرة تُتَمّمُ هذا القصور، وتفي بجزء من حقه علينا.