بين الوفاء والاستيفاء كانت بصماته مزيجًا من حبر التعلم وعبر الخبرة.. رجل دولة وبطل سيرة.. في سيرته تماثلت معاني العصامية، وامتثلت مثاني الوطنية.. بين سكون البادية ومتون المدن استعرض التاريخ، وركض بين المهام متلحفًا برداء التربية ملبيًا نداء المسؤولية؛ فتشكلت شخصيته بين سادن أسرار الاستخبارات وخازن خطط البدايات في منظومة عمل، امتزج فيها بين الاستشارة والتطوير في بلاط «صناعة القرار». إنه رجل الاستخبارات السابق الأديب والمستشار ورجل الأعمال أحمد باديب أحد رجال الدولة في العمل الحكومي والاستشاري، وأبرز نماذج المؤسسين للعمل الاستخباراتي. بوجه جداوي خليط من عمق الأصل وافق الأصالة، تكسوه معالم الشيب المهيب، وتعلوه علامات «الدهاء» وملامح البهاء، يستند إلى كاريزما هادئة أليفة مستقرة، وأناقة تعتمر شماغًا ملونًا بتشكيل ثابت، وعينَيْن يسكنهما الهدوء، تنضخان بالحنكة وصوت أصيل مسجوع بنفحات الأديب مجموع بمحكات التهذيب، تتقاطر منه موارد العصف الذهني ومنابع العطف الإنساني، طل باديب عقودًا كرجل مرحلة ووجه تاريخ. في حارة المظلوم بجدة ركض طفلاً يراقب التجارة والشطارة والمهارة في حوانيت وردهات العروس متشربًا نسمات الميناء العتيق ونسائم صباحات التوكل التي كانت قبلته الوجدانية التي يستقبل عبيرها، ويعيش اعتباراتها مترقبًا للتواد والتراحم بين الجداويين، وزوار حارة البحر ومرتادي شارع الذهب وقابل مخطوفًا إلى كتاتيب العلم وتراتيب الاحترام، مسكونًا بحكايات العابرين في مركاز باب شريف وقصص التجار أمام جامع الشافعي وروح الأتقياء المجتمعة في بيت نصيف؛ فترابطت في ذاكرته سطوة التاريخ وحظوة التراث؛ فنشأ مسجوعًا بحب تجارة والده في العطارة مشفوعًا بأمنيات أسرة ارستقراطية، كانت ترى النبل عزمًا للتفوق وعزيمة للثبات.. فانعتقت روحه من بريق الغنى، وتعتقت برائحة الطين وسحنات الطيبين. تشرب يُتم الأم مولودًا؛ فانتقل للعيش مع جدته «زوجة جده» التي غمرته بحنان بديل، تناغم مع أصالة البادية وشهامة الصحراء؛ فرتبت الأرض حينها سيرته الأولى؛ فعاش وسط الطبيعة متآلفًا مع كل موجهات الحياة ومنطلقات الهمم متنقلاً من فروض العيش إلى فرائض التعايش. درس باديب في فقيهة حلوانية، ثم كتاب السيد محمد عطية، ثم مدارس الفلاح، وتخرج منها عام 1388، ثم كان حينها معجبًا برجالات جدة وواجهات الحجاز منجذبًا إلى أقاربه المتميزين في العلم والقضاء؛ فدرس الكيمياء والأحياء بجامعة الرياض حيث عمل في مدارس الثغر بجدة، وكان من أوائل معلمي المواد العلمية.. وحصل على الماجستير في التربية، وعمل مديرًا لمكتب رئيس الاستخبارات السعودية الأمير تركي الفيصل، ثم مساعدًا له، ثم مستشارًا حتى تقاعد.. فعاصر هواجيس التحديات، وجواسيس الفتن، ونواميس العروبة.. فتعلم الرحابة والمهابة في سلك عسكري، صعده بخطوات الواثق، ونازل مهامه بخطى الشاهق. أسس مجموعته التجارية «جيهان» التي تضم شركات عدة، لها استثمارات كبرى بالداخل والخارج؛ فجذبه العمل الحر من ساحات «التعليم العالي»؛ فنال شهاداته العليا في علياء الطموح كرمز من رموز «جدة»، ومرجع بشري لأصول التخطيط الاستخباراتي، وشاهد عيان على التحديات السياسية ومواجهتها بروح الرقابة وصروح الترقب؛ فتشكلت شخصيته التي خرجت من رحم التجارب؛ لتعايش صعود العلا بتراتيب النجاح؛ فكان فاتحًا لبوابات «الأولويات»، ومحورًا لارتكاز البدايات؛ فبرز مخبرًا سياسيًّا، وتميز خبيرًا في التعليم والعمل الحر، ثم وجه بوصلته ليكون تاريخًا بشريًّا، يحتفظ بمتون الحكايات والقصص والأصول في تاريخ جدة وجغرافيا الحجاز وكيمياء التراث. حضر ونضر باديب في الثقافة والإعلام؛ إذ ترأس مجلس إدارة صحيفة البلاد، وأسس مركزه الخاص للاستشارات والدراسات الإعلامية الذي ركز على «الحضور الريادي» دون «الربح المادي» مختارًا النخب جابرًا خواطر الأدباء الذين تناستهم محافل «الأدب»، مكرمًا المثقفين الذين تجاهلتهم احتفالات «الثقافة»؛ فكان المنبر التكريمي البذخ الذي ألبس المؤثرين تاج العطاء، وقلدهم أوسمة السخاء، ونقلهم إلى شاشات الذاكرة بالقيمة والذكرى واضعًا جوائز مخصصة للفنون الأدبية والتراثية والثقافية للمهتمين والباحثين من المحيط إلى الخليج. في جدة التي يعشقها باديب، ويرتبط بها كحدث وحديث، كصورة وبرواز، كان فاعل الخير الذي احتفظ ببراهين «الإرث التاريخي»، وابن البلد «الأصيل» المؤسس لدلائل العمق الوجداني حاميًا «الأصول والفروع» من زحف النسيان وضلالات التغير، محفوفًا بذاكرة مشرقة، شغوفًا باستذكار مجيد لأبعاد الإنسان والمكان في زوايا الدراسة ومطايا العلم وعطايا العمل وسجايا الذات.