شيخ الحداثيين.. وصدى شعراء «الصعاليك» المحفوظ.. سيف الكتابة المعتدل وسهم الأدب المصيب ورمح الثقافة المهيب.. إنه عبدالله نور -رحمه الله- هكذا دون ألقاب فاسمه يغلب اللقب ويهزم التعريف.. فالثقافة داره والنقد مداره والتاريخ شعاره والأنساب مساره.. باختصار هو الثقافة في اختيال واجتيال. جال بالقلم وصال بالحجة في مساحات الفكر بروح الناقد وبوح المثقف وطموح العملاق. بوجه أسمر معطر. معتقة بنسائم الطهر وجسم فارع الطويل يتكامل مع أناقة مستديمة وعينان تشعان حدة وجدة وكاريزما تتقاطر منها بانسيابية ضحكة «بيضاء» تعنون حضوره مع صوت جهوري مرتكن إلى مرابع الجاهلية أدبًا مشفوعًا بالتاريخ حفظًا مسجوعًا بلهجة أهل الرياض ممزوجة بلهجة مكاوية ولغة عجيبة مهيبة تحتار أمامها منصات التصحيح وعبارات مبتكرة أرضخت الحروف وطوعت الكلمات. ظل عبدالله نور 50 عامًا أديبًا وظاهرة ثقافية أينما حل وحيثما ارتحل منبعًا للاستفتاء اللغوي ونبعًا للإشعاع الثقافي. في المسفلة حارة المكيين الشهيرة بإخراج الأدباء والرياضيين عاش طفلاً فقد أمه بعد عامه الأول فرأى في عشرات النساء المرضعات أمهات أسبغن عليه الحنان البديل ولكنهم لم يخرجنه من ظلمة يتم الأم فنشأ طامحًا مكافحًا منافحًا يراقب المثقفين في مركاز الحي ويستمع إلى أحاديث الحجيج وقصص الروحانية فنشأ مخطوفًا إلى تكاملات السكينة وتقاطعات الحسنى.. عاش نور في كنف حفاوة أسرية كان يقابلها بشقاوة بريئة أمضاها طفلاً راكضًا في الحجون وشعب عامر وجرول بمكة محتفلا بضحكات «الطيبين» مستهلاً بأمنيات أسرها للمقربين وأعلنها للتاريخ. تزاحمت في مخيلة نور موجبات «اليقين» بعلم درسه بين أيادي بن باز وآخرين وعزائم «المعرفة» وهو يحيك رداء الكلمة صبيًا بائعًا للكتب وتلميذًا في حضرة حمد الجاسر فسار في تجاذب بين كينونة «الشريعة والاعتدال» وأيقونة «الصحافة والأدب». في الرياض أكمل دراسته بعد سن السابعة حيث انتقلت أسرته إلى هنالك بحكم عمل والده وعاش فيها منحازًا إلى حظوة الثقافة بالوسطى متحيزًا لسطوة العلم بالحجاز منجذبا إلى شخصيات شكلت له مرايا رغم «البعد التاريخي» فظل يحفظ الأدب الجاهلي ويغيب القصائد العربية حتى امتلأ قلبه برصيد الوزن ومديد القافية. تجاوز عبدالله نور إشادات ومكملات الشهادات العليا مكتفيًا بشهادات زمن كان بطله ومعاهدات ذاتية مع نفسه أن يكون وجهًا ثابتًا للأدب ومتحولاً للتطور. بدأ لاعبًا للكرة وعمل موظفًا حكوميًا في الصحة وعمل في مجلة (اليمامة) السعودية، مع مؤسسها وصاحبها الشيخ حمد الجاسر، وتولى إدارة تحريرها لفترة من الزمن، ثم تولى منصب مدير تحرير صحيفة الرياض. استلهم عبدالله نور ضياءات من ظلام خيم على الشأن الثقافي مستخرجًا أعماق الرؤى من قبو فكر مظلم ليرى النور أمام سجال وجدال تعانق معه بموضوعية حتى الرمق الأخير.. فكان صديقًا للكل ورفيقًا للجميع مختلفًا مع البيان متوافقًا مع الإنسان. في خضم حراك «لجي» نشأ بين التيارات الفكرية تنازع نور مع معادلات ومتراجحات كان الحل فيها «سطوته البلاغية في الإقناع» والنتيجة خلالها «حظوته الإنسانية في الإبداع» فشكل وجها للحداثة استحدث فيها المتون «السلطوية « للتغيير واستوطن بها معاقل «التهميش» فملأها ودًا وأنبتها وردًا رغمًا عن أرضية الرماد. تمتع -رحمه الله- بذاكرة خصبة لحفظ المئات من معلقات «عنترة بن شداد» وشعراء الصعاليك وما بعدهم.. واستمتع بذات شقية نقية في آن واحد مزجت التضاد بابتسامته البيضاء.. واستقامته العصماء.. غيبه الموت في عام 2006 ونعته الأوساط الإعلامية والثقافية وووري جثمانه الرياض التي طالما أشبع منصاتها طرحًا وأمتع محافلها قريحة.. كتب وألف نور كثيرا من كتب النقد والروايات والأطروحات والأدب تركها في خزينة قلبه وخزانة مكتبه.. احتفظ بها وهي إرثًا وتراثًا وميراثًا سيثقل ميزان كفة الأدب السعودي لو طبعت جميعا. والجدير البحث عنها في مكتبته بين أوراقه فهي كنوز زاخرة بجواهر الكلم ونوابغ الفكر ومناهج تعزز الثقافة وتنتصر للبحث. وفى عبدالله نور مع الأجيال أساتذة ورفقاء درب وزملاء حرف وأصدقاء مهنة وتلامذة أدب فظل موسوما بالذكر الطيب في القلوب مرسومًا في قلب الثقافة كبيرقٍ بشريٍّ ثابتٍ.