ثمة شعور غريب يساورني حين أستمع إلى قصيدة (لا أعرف الشخص الغريب) لمحمود درويش وهو يلقيها بصوته ويصبح ذلك الشعور أكثر إلحاحاً حين ألحظ التفاوت في مدى تجاوبي ما بين الاستماع إلى القصيدة وقراءتها، إذ يصير الخيال حصاناً ذا صهيل وجَلَبَةٍ وحمحمةٍ حين أستمع إلى أصوات الناس إلا أن كل ذلك يتلاشى رويداً رويداً حين أقرأ آثارهم وأرمقها شاخصة على الورق! لم يعبأ محمود درويش في قصيدة (لا أعرف الشخص الغريب) بالزخرف اللفظي قدر عنايته بالفكرة المغلَّفة بغلاف النَّفَس السردي فهو في تلك القصيدة يوجز الفلسفة الغائرة ما بين ثنائية الحياة و الموت في مشهد سريع أقرب ما يكون إلى ما تعهده الأرواح في الرؤى و الأحلام . وأحسب أن هذا مدخل يغري بقراءة النص قراءة متأنية تَصفَحُ عن القصور في جانب استخدام العبارة الشعرية المجازية المتفردة نظير التشبث بخيالية الدلالة العامة للنص. هنا بالذات يجدر بي أن أستطرد قليلاً لأتحدّث عن وجهة نظر شخصية أرددها باستمرار ألا وهي أن الفنون والآداب على وجه الإجمال والشعر خاصة هي في كنهها وسحرها تجسيد ومحاكاة لفلسفة الحلم أو الرؤيا فأنت في منامك ترى الأشياء والذوات المألوفة في صورة رمزية غير مألوفة وهذا هو السر في فتنة الناس بالرؤيا وهو في رأيي سر الفتنة بالشعر لذلك أَستميتُ في الدفاع عن مبدأ الرمز في الشعر وما يقتضيه ذلك الرمز من توظيف العبارة المجازية غير التقليدية ومنح المفردات وضاءة معنوية خلاَّبة تتأتى حين يمزج الشاعر المفردة المعتادة بسياق غير معتاد ليعيد في نهاية المطاف بعث المعاني التي أفناها الشعراء عبر الأحقاب الغابرة لأن المعاني متداولة أما الصياغة الشعرية الحقيقية فهي شحيحة جداً . وهكذا يتضح للقارئ العزيز أنني من أنصار العناية بالصياغة الشعرية ولوازمها من خيال يمخر عباب الصور واختيار دقيق للمفردة وحرص على ترويض الرمز ومن ثم هَمزُهُ في مضمار خلاَّب يستفز القارئ (الذكي) لينظر ويتأمل فهل يتوافر هذا في القصيدة التي نتحدث عنها في هذه المقالة؟ أذكر أنني قرأتُ مقالاً نقدياً حول القصيدة ذاتها كتبه أحد أقطاب الحركة الأدبية و النقدية في بلادنا حفظها الله والحق أنني من أشد المعجبين بشخص الكاتب و ثرائه الأدبي و النقدي و المعرفي لذلك قرأتُ المقال عدة مرات فوجدتُ أن الكاتب قد أفضى إلى خلاصة مفادها أن الشاعر أسرف في النثرية لذلك فإن النص في رأيه ليس شعراً. عليك أن تلحظ أيها القارئ الكريم أنني اعترفتُ بانحيازي للصياغة وقلتُ قبل ذلك . (لم يعبأ محمود درويش في قصيدة (لا أعرف الشخص الغريب) بالزخرف اللفظي قدر عنايته بالفكرة المغلفة بغلاف النَّفَس السردي) فهل معنى ذلك أنني أوافق رأي ناقدنا الكبير في نفي شعرية النص؟ أم تراني قد نقضتُ رأيي الراسخ حول الصياغة الشعرية؟ الحقيقة أنني أذهب إلى ما ذهب إليه ناقدنا من أنَّ الشاعر جنح في نصه هذا باتجاه النثر (من حيث الشكل الخارجي ) إلا أنه ( في تقديري ) دسَّ الشاعرية دسا في قصيدته بحيلة لطيفة فكيف كان ذلك؟ ليسمح لي القارئ أن أشير إلى بعض اللفتات في النص قبل أن أفضي إلى الفكرة النهائية. مدى تأثر النص بالنظرة الدينية تجاه الموت: قد يشعر القارئ للوهلة الأولى أنني أجازف حين أتحدث عن نظرة دينية في شعر محمود درويش إلا أنني أرى أنه ما من شاعر يعيش في مجتمع إلا متأثراً به سواء سعى الشاعر إلى ذلك التأثر وحَرِصَ على صقله حتى يظهر جلياً في نصوصه أو أن ذلك التأثر تسرب خلسة إلى وعي الشاعر وصميم وجدانه لأن من يسير تحت زخَّات المطر لا بد أن يبتلَّ بها شاء أم أبى والشاعر العربي مهما اعتنق من الأفكار ومهما كان مقدار انحلاله الشخصي من ربقة الأديان فلا بدَّ له من الاطلاع على النصوص الدينية الإسلامية ولا سيما أن الإسلام ظَهَرَ أولاً في بيئة عربية تعلي شأن اللغة و الإبداع فيها لذلك نلحظ أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مع ما فيهما من ذخائر تشريعية و مواعظ و قصص و إعجاز علمي نجد كل ذلك متضافراً سائغاً للمتلقي بلغة تأسر الألباب فإذا تآزر المضمون النبيل لهذه النصوص ولغتها الآسرة فلا بد لها من خلق ثقافة ما في نفس القارئ حتى و إن لم يلتزم بها في حياته الشخصية و من المعلوم أن فكرة التدبر في الموت والحياة وأخذها مأخذاً بالغ الاحترام هي إحدى الركائز الفكرية التي نراها راسخة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حتى وإن ذكر محمود درويش في قصيدته هذه ( باب الكنيسة) وتجاهل (محراب المسجد) إلا أن من يقرأ قوله (رأيتُ جنازة فمشيت خلف النعش مثل الآخرين مطأطئ الرأس احتراماً) ، فلا بدَّ له من أن يستشرف نفحة آتية من نص ديني ما يحث على احترام الجنازة ونصوص أخرى كثيرة تحث على تشييع الجنائز وما يترتب على ذلك من تدبر في فكرة الموت والحياة. على كال حال هذا رأي شخصي وللقارئ الكريم أن يتجاوزه . مدى تأثر النص بنصوص شعرية أخرى: فكرة رثاء النفس من خلال رثاء الميت الغريب فكرة طرقها امرؤ القيس في الأبيات التي قيل إنَّ امرأ القيس قد قالها قبل وفاته ( أجارتنا إنا غريبان هاهنا) وهذا على كل حال كلام نقوله ما لم يقدم لنا أحد الباحثين الجهابذة مفاجأة غير سارة تقضي ببطلان الأبيات المنسوبة إلى امرئ القيس وربما نسف الموقف الذي قيلت فيه الأبيات من أساسه وهذا أمر اعتدناه عندما يتعلق الكلام بالشعر الجاهلي خاصة . والحقيقة أنني أجد أحياناً أكثر من نسخة لقصيدة جاهلية واحدة فأجد في إحدى النسخ بضعة أبيات لا أجدها في نسخة أخرى ومع ذلك أقول إن نفي بعض القصص و الأشعار القديمة لا يعني بالضرورة أن الشعراء المعاصرين لا يطَّلعون على مثل هذه الأشعار ويتأثرون بها غير أن النكتة التي ينبغي أن نتوقف عندها هي هل كان محمود درويش في قصيدته يرثي نفسه من خلال رثاء الميت الغريب؟! سأجيب لاحقاً لأنني أرغب الآن في رصد عبارتين لمحمود درويش أشعر أنه اقتبس ما فيهما من دلالة من شعر أبي العلاء حيث يقول محمود درويش (فإن أسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة) ويقول المعري (تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد) فالمعري يرى أن الحياة تعب ويتعجب من شخص يرغب في المزيد من هذا التعب وكأنه يشير إلى أن الموت راحة و أن على الإنسان أن يمضي في طريق الموت طواعية دون تشبث بأسباب الحياة ودون اكتراث بالمصير المحتوم لأنه مصير مريح فجاء محمود درويش ليكمل رسم لوحة لم يرغب أبو العلاء في استكمالها في زمانه فأضاف محمود درويش أن الوفاة في أصلها نتيجة حتمية لحياة لا يطيق الإنسان أن يحتمل وجعها فالحياة أصلا تدفعك بمواجعها دفعاً صوب الموت وهكذا ينتفي عنصر (الطواعية ) الذي ألمح إليه المعري من طرف خفي كما أن الراغب في الازدياد من الحياة هو في النتيجة النهائية يرغب في الازدياد من أسباب الوفاة هكذا يستدير المعنى و تكتمل الصورة حين نمزج القولين معاً . في موضع آخر يقول محمود درويش (فالأحياء هم أبناء عم الموت و الموتى نيام هادئون). ويقول المعري (ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها) وها هنا دعوة للتأمل. الموت والحياة وجهان لعملة واحدة: يقول محمود درويش عن الميت الغريب (ولم يَرَ الموت المحلِّقَ فوقنا كالصقر) ثم يقول بعدها مباشرة ( فالأحياء هم أبناء عم الموت و الموتى نيام هادئون ) وقد قيل ذات مرة: ( إذا خِفتَ شيئاً فعليك بالوقوع فيه) وقال شاعر آخر (وداوني بالتي كانت هي الداء) فإذا سَلَّمنا أن محمود درويش يرى ما يراه المعري من أن الموت مجرد رقدة مريحة لا ينتهي بها مطاف فهذا يعني أنه قد استقر في ذهنيهما أنه لا فكاك لأحد طرفي المعادلة من الآخر وأن الموت حين يطوي صفحة الإنسان فإنه يريحه من قشعريرة الانتظار وهذا في رأيي هو السر في قول محمود درويش (الموت المحلِّق فوقنا كالصقر) وهو شعور يشعر به الإنسان حين يموت أحد أعزائه فتندلق على خاطره هواجس الموت ويشعر المرء أن الموت قد لامس فؤاده هو ثم أفلته ليأخذ قريبه أو نسيبه وهذه هي مهارة الموت في فتل سياط الانتظار وهذه هي براعة الحتوف في شحن خيال الإنسان بشعائر الختام الدنيوي ومناسك الرحلة البرزخية ولذلك قال محمود درويش (الأحياء هم أبناء عم الموت). لحظة التنوير: قلنا في موضع سابق إن الفكرة في النص مغلفة بغلاف النَّفَس السردي لذلك كان لزاماً أن نبحث عن لحظة التنوير فأين تكمن تلك اللحظة يا ترى؟ يقول محمود درويش (وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي لكنّ أمراً ما إلهياً يؤجلها لأسباب عديدة من بينها خطأ كبير في القصيدة) . وكأنما أراد الشاعر أن يقول إن جنازته مؤجلة حتى يصحِّح مسار قصيدته و يصوِّب الخطأ الكبير الذي اعتراها حين صَرَفَ الرثاء لشخص لا يعرفه و ترك رثاءه لذاته و الحق أن الشاعر تعمَّد الوقوع في هذا الخطأ اللذيذ حتى يلمح إليه في نهاية النص وهاهنا نعود إلى أبيات امرئ القيس الذي مزج رثاءه لنفسه برثاء المرأة الغريبة (وكل غريب للغريب نسيب) وهكذا يتضح أن محمود درويش في هذا النص كان يرثي نفسه بصورة مواربة و هو الذي صَرَّح بهذا الرثاء للذات في نصوص أخرى الأمر الذي يعني أنه رَجَلٌ مسكون بهاجس الموت و فكرة رثاء الذات إلا أنه تعمَّد في هذا النص أن يراوغ القارئ ليدهشه في الختام وهذا الختام هو الذي يفسر لنا معنى قول محمود درويش (الموت المحلِّق فوقنا كالصقر)، فهو يشعر أن الموت له بالمرصاد ويرغب في رثاء نفسه إلا أنه طَوَّحَ بالقارئ بعيداً عن هذا المعنى و خاتله برثاء الشخص الغريب ثم عاد ليستدرجه إلى لحظة التنوير استدراجاً وئيداً ليغرس الفكرة النهائية في ذهن القارئ أو (المستمع مثلي) غرساً أبدياً لذلك أستطيع القول إن محمود درويش في هذا النص قد باشر (فلسفة الحلم أو الرؤيا) التي أشرتُ إليها آنفا ذلك أن المشهد الذي تصفه القصيدة حَرِيٌّ بأن يكون قصة خيالية يراها الإنسان في منامه ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أنك في منامك ترى نفسك أمام المرآة تلقي قصيدة رثاء لشخص تزعم أنك لا تعرفه إلا أن المرآة لا تعكس نفس الصورة بل تعكس صورتك مغمض العينين مُسَجَّى على نعشك !! أوليس هذا هو الخيال بعينه ؟! أوليس هذا شعراً ؟! لا شك أن السرد في النص قد جرى في مجراه الرتيب إلا أن الشاعر قد لجأ في النهاية إلى صعق المستمع بهذه اللفتة التي رَجَحَتْ بها كفةٌ تحمل الدلالة الخيالية للنص وهي لفتة (سينمائية إن جاز التعبير) تماماً كما يشعر المرء حين يفيق من نومه مذعوراً و قد رأى في ختام رؤياه نهاية مفزعة غير متوقعة و هكذا نستطيع القول إن الشاعر تمكن من توظيف (فلسفة الرؤيا) بمهارة دون أن تكون هذه الرؤيا مشفوعة بلوازمها التي ذكرت بعضها في سطور سابقة و هكذا وَخَزَ النص في نهايته وخزة ماكرة أيقَظَت شعريته الكامنة كمن يسكب الوقود السائل على مسافة طويلة ثم يوقد الشرارة في الطرف لتشتعل كل المسافات السابقة . حَرِيٌّ بي بعد هذا العرض أن أقول إنني لم أكن يوماً مفتوناً بمحمود درويش و لا منحازاً إليه، إلا أن الأمانة تقتضي أن أجتهد في وصف ما يعتمل بخاطري إزاء أي نص أقرأه دون الالتفات إلى شخص الشاعر أو الكاتب والحقيقة أن هذه القصيدة ترتبط في ذهني بذكريات أبي - رحمه الله- فعندما مرض والدي - غفر الله له - مرضه الذي توفي به كانت هذه القصيدة وجبة فكرية أتناولها كل ليلة حين أخلو بنفسي وأفتح جهاز الحاسب الآلي لأفتح المقطع الذي احتفظت به على جهازي و أغرق في أفكاري و أنا أستمع إلى صوت الشاعر وهو يقرأ هذه القصيدة وكلما انتهى المقطع أعدته فلا أفيق من هواجسي حتى يمضي من الوقت ساعة أو ساعتان و كنت حينها أشعر حقاً أن الموت يطرق باب بيتنا ويحلِّق فوق سطحه كل ليلة حتى إذا توفي أبي - رحمه الله- وصار موته أمراً واقعاً خطر في ذهني قول الشاعر (أيتها النفس أجملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا) ومكثتُ بعد ذلك مدة أستمع إلى هذه القصيدة كل ليلة عدة مرات حتى بارحني الذهول. الخلاصة: الشعر فن الرؤيا ورموزها وفن صياغة الذات بصياغة اللغة و مجازاتها و رنينها الأخَّاذ. إلا أن الشاعر الخبير قد ينفذ بإحدى قصائده إلى محراب الشاعرية بتميمة شاردة أو عقدة عبقرية نَفَثَت فيها حورية القصيد في ركن قَصِيٍّ بعيدٍ عن سطوة الرؤى المواربة واللغة المجازية العتيدة. خاتمة: مهما تحدث بعض القوم عن طغيان الزمن وتجاوزه جاذبية الشعر وقراءته و تحليله فسيبقى الشعر ما بقيت رقعة الشطرنج بأحجارها ليلعب اللعبة نديمان الأدهى فيهما لا يتقن تحريك أحجاره فحسب و إنما يتقن قراءة الرقعة و التنبؤ بالحركات المحتملة لنديمه. (الشعر كالشطرنج لعبة صعبة يمقتها من تتشابه عليه أحجارها) . ** **