هذه السُّنَّة الجميلة التي درجت عليها المجلة الثقافية في جريدة الجزيرة للحفاوة برموز العلم والأدب والثقافة في بلادنا خطوة في سبيل تكريم أهل العلم والفضل، تستحق الإشادة والشكر. وحين يكون الحديث عن شخصية كالأستاذ الدكتور عبدالله الرشيد فإن الإنسان يقف حائراً؛ أيتحدث عن عبدالله الرشيد الإنسان الذي يأسرك بِسَمْته ونبله، أم الشاعر المجلي، أم الناقد الواعي، أم الأستاذ الجامعي الذي يشار إليه بالبنان؟ عرفت أبا بسام منذ ثلاثين سنة، اجتمعنا داخل الجامعة وخارجها، في الرياض وغيرها. وخلال هذا العمر الممتد، لم أعرف عنه إلا نبل النفس وصفاء السريرة وإنسانية المشاعر والأحاسيس تجاه من يتفق معه أو يختلف؛ فقد يقسو في نقد فكرة أو كتاب أو ديوان، لكنه لا يسيء للمنقود بكلمة نابية أو عبارة مسيئة. ولست مبالغاً إن قلت: إن جميع من عرفه أو التقاه سيتفق معي في هذا؛ فملامح وجهه ندية بالصدق، وجمال الخلق والعلم قد تزاوجاً فيه، هادئ، لا يخرجه من هدوئه إلا خطأ لغوي يقرع سمعه. حمل هم اللغة العربية، وأخلص لتخصصه (الأدب والنقد)، وهو – على حسب رأيي- أبرز شعراء الجيل الرابع من شعراء المملكة العربية السعودية، الذين ظهر أغلبهم في العقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري، ونشؤوا في كنف الأندية الأدبية المنتشرة في أنحاء بلادنا، وواكبوا تطور التعليم العالي، وشبوا في خضم الثورة الفضائية العالمية التي قربت البعيد وكشفت الخفي، فكانت زاداً ثقافيًّا ورافداً مهمًّا، استمدوا منه شيئاً من التفكير والتصور للكون والحياة. بَسَقَت القصيدة على يديه، وبات بها شاهقاً، لم يحتفل بمدح، ولم يتضجر من ذم، بل إنه أفسح لمن ذم شعره مساحة في غلاف ديوانه (نسيان يستيقظ). ما يثير العجب أن ذلك الذم بعيد عن الحقيقة، وقد يغترّ به من لم يقرأ شعره، ومع ذلك نشره! لو أنه ذكر أصحاب الذم، لقيل إنه أراد أن يفضحهم؛ لأن كل عارف بالشعر، سيدرك حيف تلك الأحكام، ولكنه لم يفعل. ولانصهار العلم والخلق في شخصية أبي بسام أثر كبير في سعة أفقه وتواضعه الشامخ، وعفة أسلوبه؛ يقول في مقدمة كتابه (الأفاكيه والنوادر): «والله المسؤول أن ينفع بهذا الجهد، وأن يرزقه القبول – على ما يعتريه من نقص، ويتحيفه من الخطأ والزلل – وإني لأورد قول القائل: إن تجد عيباً فسُدَّ الخللا جلَّ من لا عيب فيه وعلا مؤمناً بعجزه، نابيةً همتي عن صدره؛ إذ إني أقول: إن تجد عيباً فهات الخللا. فانظر - أيها القارئ - في هذا الكتاب نظر الناقد الناصح، وأهد إليَّ عيوبي؛ تجدني لك شاكراً ولفضلك ذاكراً». حينما كُلِّف الدكتور عبدالله رئاسة قسم الأدب في كلية اللغة العربية، رغب أن أتولى وكالة القسم، فقلت: أمهلني للتفكير. ولم أكن في تلك اللحظة راغباً في الوكالة، ولم أطلب المهلة للتفكير في القبول أو الاعتذار، بل طلبتها لسببين، أولهما: أنني لا أريد أن أرد طلبه مباشرة وهو الأثير عندي، ثانيهما: أنني أريد أن أفكر في الأسلوب الأنسب للاعتذار. وحين فكّرت وقدّرت؛ رأيت أن طلب أبي بسام لا يرد، وأن من الخير المشاركة في تحقيق الأهداف النبيلة التي كان يطمح لتحقيقها. وقد وفقه الله لإكمال جهود الزملاء قبله، والنهوض بالقسم إلى آفاق أرحب، حين أداره بالحب والحزم؛ كان محبًّا للجميع، محبوباً منهم، على الرغم من صرامته وبعده عن المجاملة في مواقف التقصير في العمل؛ لأنه مثالي في معاملته، يحترم زملاءه و يؤثرهم على نفسه، وكأنه عنى نفسه بقوله في إهداء كتابه (الأفاكيه والنوادر): «إلى الذين يعملون ويسرُّهم أن يعمل الآخرون». عرف عنه زملاؤه وطلابه الإخلاص في التدريس والحزم في معاملة الطلاب، بل القسوة حين يقتضي الأمر. حينما كنت مسؤولاً في القسم، كنت أُكْبر الطالب الذي يقدم رغبته في أن يكون الدكتور عبدالله مشرفه، وأحكم على الراغب بأنه جاد، مقبل على العلم. حصل على جائزة التميز التي تمنحها الجامعة للفائقين من أساتذتها. وكان جديراً بها؛ لما عرف عنه من منهجية علمية فيما أنتجه من بحوث، وتفانٍ وإخلاص في التدريس والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه. ومن مثاليته التي أشرت إليها أنه بعد أن انتهت مدة رئاسته للقسم جاء إليّ ذات يوم يبدي رغبة أحد طلاب الماجستير في تحويل الإرشاد إليه ثم الإشراف بعد ذلك، فأخبرته أن الطالب لم يحترم القسم حين فعل كذا وكذا، ولكن القسم سيتنازل عن حقه من أجلك، فرفض، والطريف في الأمر أنني ظللت أقنعه، فأجابني بأن نظام القسم أولى من رغبة الطالب، يقول ذلك وهو الذي جاء يشفع له. وكنت أشرف على بحث شقيقه في المرحلة الأخيرة من دراسته في كلية اللغة العربية، ولم أذكر أنه سألني عنه في أثناء الفصل الدراسي أو في أثناء خروج النتائج؛ خشية أن يكون في ذلك إيحاء بمساعدته، على الرغم من أننا نعمل في مكان واحد في القسم من الساعة 7:30 – 1:30 موعد خروجه الذي لم يحد عنه طوال الأعوام الثلاثة التي قضاها في رئاسة القسم عدا أيام معدودات. ** **