الوفاء بالعهد من القيم الأخلاقية السامية الموروثة عن المجتمع العربي قبل الإسلام، والتي جاء الإسلام ليتممها، ويؤكّدها، ويحثّ عليها. فلقد كان للكلمة عند العربي وزنٌ وقيمة، فإذا قال كلمة كانت عهداً ملزماً، وكان عليه الوفاء به، وإلاّ عرّض نفسه للتشهير والتجريح، وصار بين الناس ملوماً مذموماً. كما كانت كلمته هي الميثاق والعقد، الذي لا يتطلب توثيقاً كتابياً ولا شهودَ. والوعدُ من المقدسات عند العرب، سواءٌ كان على المستوى الفردي، أو على الصعيد القبلي، وقد يدفع العربي دمه، وقد يضحِّي بالغالي والنفيس، بل قد يضحي بابنه أو أخيه، وفاءً بعهده. وكان العرب يعتدّون بالوفاء اعتداداً عظيماً، ويرونه قيمة عظيمة، وشرفاً غالياً، إذا ضاع في قوم حلّت النوائب بهم، فقالوا: «إذا ذهب الوفاء نزل البلاء»؛ فكان أن برّوا بوعودهم، وقبّحوا من يخلف وعده علانيةً في الأسواق وعيّروه أمام الناس. وكان الغدر ممقوتاً لديهم، ومعرةً يتجافون عنها، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواءً بالأسواق ليشهِّروا به، وفي ذلك يقول الحادرة «قطبة بن محصن»، متفاخراً ومعاتباً أنهم لم يغدروا، ولم يُرفع لهم لواءُ غدرٍ بين الناس: ويحتفظ الموروث العربي بنماذج نبيلة من صور الوفاء بالعهد، وإن كان لهذا ولغيره استثناءات لا يُستبعد وجودها في البيئة العربية قبل الإسلام. من أبرز هذه الصور قصة وفاء الشاعر العربي السمؤال بن عادياء الأزدي (ت560م)، صاحب حصن الأبلق في تيماء، والذي يُضرِب به المثل في الوفاء، فيقال: «أوفى من السمؤال»، ذلك أنه ضحَّى بولده على أن يُفَرِّط في دروع كانت ملوك كندة يتوارثونها، استودعها أمانةً عنده أمرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي الشاعر المشهور (ت 565م). وقد طلبها ملك الحيرة الحارثُ بن أبي شَمِر الغَسّانيّ وألَحّ في طلبها، فلمّا رفض السموأل تسليمها إليه، أرسل إليه جيشاً فحاصر قصره، أو حصنه، الذي تحصّن فيه، وكان ابنه خارج القصر، فأخذه الحارث الغساني رهينة عنده، وساومه على دفع الدروع، التي في عهده، أو قتل ابنه، فآثر الوفاء بالعهد وظل محافظاً عليه حتى وهو يرى فلذة كبده يُذبح أمام عينيه، وأعطاها ورثة امرئ القيس. وقال قولته المشهورة: وهكذا دفع السمؤال ثمناً غالياً بالفعل وفاءً لعهده، فما أعظم الوفاء بالعهد عنده. وكذلك فعل عمير بن سلمى الحنفي عندما ضحّى بأخيه وفاءً لعهده. فقد استجار به رجل من بني عامر بن كلاب، وكانت معه امرأة جميلة، فرآها (قرين بن سلمى الحنفي) أخو عمير، وصار يتحدث إليها، فنهاها زوجها بعد أن علم فانتهت، فلما رأى قرينٌ ذلك قتل زوجها، وعميرٌ غائب، فأتى أخو المقتول مطالباً بثأر أخيه، فلما قدم عمير أخذ أخاه وأبى إلاّ قتله أو أن يعفو عنه جاره، فأبى أخو المقتول أخذ الدّية ولو ضوعفت، عندئذ أخذ عميرٌ أخاه وقتله لغدره ووفاءً لجاره. وقد يعرِّض الإنسان حياته وفاءً لعهد أو لكلمة أخذها على نفسه، ولعل ما حدث مع المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء (ت 545م)، أحد ملوك الحيرة من أبرز النماذج العربية في ذلك، عندما حكم بقتل رجل من طيئ يقال له حنظلة، فلمّا همّ بقتله سأله حاجته، فقال: أخِّرني حتى أرجع إلى أهلي، وأفعل ما أريد ثم أصير إليك فتفعل بي ما تشاء. فقال المنذر: ومن يكفلك أنك تعود، فنظر الرجل في الحضور، فعرف شريك بن عمر بن شراحبيل الشيباني وكان من سادات العرب وأشرافهم، فقال: يا شريك «يا ابن عمرو ... ويا أخا من لا أخا له»، فوثب شريك، وقال للمنذر: أبيتَ اللعن (أي أبيت أن تأتي ما تستحق اللعنة عليه، وهي كلمة تقولها العرب لملوكهم عند التحية) يدي بيده، ودمي بدمه. فأطلقه المنذر بعدما أمهله عاماً كاملاً يعود بعده لتنفيذ الحكم. فلما حال الحول، وحان الأجل، جلس المنذر ينتظر حنظلة، فلما أبطأ قليلاً تقدم شريك ليقُتل مكانه، وبينما هو كذلك لم يشعر إلاّ جاء ركبٌ فيه حنظلةٌ وقد تكفّن وتحنّط وتهيّأ لمقتله، فلما رآه المنذر عجب من وفائه، وقال له: ما حملك على قتل نفسك؟ قال: إنّ لي ديناً وخلقاً يمنعاني من الغدر، فاستحسن ذلك منه وأطلقهما معاً. وقد تقوم حرب تُراق فيها دماء، وتزهق فيها الأرواح، جرّاء الوفاء بالعهد؛ من ذلك ما حدث مع هانئ بن مسعود الشيباني، أحد سادات العرب وأبطالهم، الذي لم يأبه لكسرى الفرس وتهديداته حفاظاً على وعده الذي قطعه على نفسه بحماية أهل النعمان بن المنذر وأمانته، وصمد أمام الإمبراطورية الفارسية حتى قاد العرب لانتصار تاريخي على الفرس في يوم «ذي قار» أحد أيام العرب المشهودة في التاريخ. فتذكر الأخبار أنّ النعمان الثاني حينما تخوّف من غدر كسرى به ترك بعض ودائعه من الأموال والأسلحة والأهل عند هانئ بن مسعود الشيباني، أحد رجالات ربيعة وبكر بن وائل. فلما مات النعمان في سجن الفرس كلف كسرى إياس بن قبيصة عامله على الحيرة أن يسترد ودائع النعمان من هانئ فرفض الأخير فيما أؤتمن به، فأمر كسرى بإعداد جيش من الولايات الفارسية والعربية على الحدود وأمّر عليه إياس. وتلاقى هذا الجيش مع قبائل بكر وحلفائها في موقع ذي قار على مبعدة قليلة من الحيرة. وكان النصر حليف الفرس وأعوانهم في اليوم الأول، نظراً لكثرة عددهم وما استعانوا به من الفيلة، ولتهيب بعض العرب منهم، ولكنهم ما لبثوا أن جزعوا من شدة الهجير واحتمال تعرضهم للعطش فتقهقروا فتبعهم العرب وشاركت النساء في شحذ عزيمة الرجال، وصحت ضمائر بعض القبائل العربية المظاهرة للفرس فاستعدت للتخلي عنهم حين جدّ الجد. وتحطمت عزيمة الفرس واشتد بهم العطش فخارت قواهم، وحملت عليهم العرب حملة شديدة حتى هزموا هزيمة منكرة في عامٍ يراه البعض عام 609م والبعض الآخر يراه عام 611م. وعن هذه الموقعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا». وقد يلتزم العربي بوعده ويوفّي به حتى مع من خانوه، وإن كانوا من أصدقائه، وهذا ارتقاءٌ أخلاقي عالٍ فهو يُقدِّم المعروف مع من ضنوا به عليه، بل وأساءوا إليه. وفي هذا يقول عُدي بن زيد العبَادي التميمي (ت 35 ق. ه/ 587م) وهو من أهل الحيرة: ولقد كان مفهوم «إن قلتَ لا تخفْ، وإن خفتَ لا تقلْ» أو مفهوم «إن قطعتَ عهداً فأوفِ به، وإلاّ فلا تقطع على نفسك عهداً» في وعي العربي القديم، وربما كان وعياً وواقعاً أيضاً. وهذا ما أشار إليه المُثقِّب العَبدِي (71 - 36 ق. ه/ 553-587م) من بني عبد القيس من ربيعة، وذلك في قصيدته التي يقول فيها: ومن جميل قصص العرب في الوفاء ما فعله عبد الله بن جُدعان في حرب الفِجَار التي دارت بين كنانة (ومنها قريش) وهوازن، وسميت بالفجار لما استحل فيه هذان الحيان من المحارم بينهم في الأشهر الحرم ولما قطعوا فيه من الصلات والأرحام بينهم، وهذه من الاستثناءات التي أشرنا إليها من قبل. وكانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان أمانة عنده ثقةً فيه، حتى يفرغوا من أسواقهم وحجِّهم، ويردّها عليهم إذا ارتحلوا. وكان سيداً من سادات قريش وحكمائها، وفي داره أُعلن حلفُ الفضول فيما بعد. فجاءه القوم، فأخبروه خبر التقاتل بين أبناء القبيلتين، وأخبروا حرب بن أمية وهشام والوليد ابني المغيرة، فجاء حرب إلى عبد الله بن جدعان، فقال له: احتبس قبلك سلاح هوازن، نصرة لأبناء عمومتهم وحلفائهم من قبيلة كنانة، فقال له ابن جدعان: أبالغدرِ تأمرني يا حرب؟ والله لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به، ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئاً، ولكن لكم مائة درع، ومائة رمح، ومائة سيف في مالي تستعينون بها، ثم صاح ابن جدعان في الناس: من كان له قبلي سلاح فليأت، وليأخذه، فأخذ الناس أسلحتهم. فلقد كان السلام للعربي أغلى ما يملك معنوياً ومادياً. ويرتبط الوفاء بالعهد عادةً بالصدق مع النفس ومع الغير، وهذه قيمة أخلاقية أخرى كان العرب يقدرونها، ويمتدحونها في المرء، ويرونها من شيم السادات الكرام الأحرار. ويمقتون نقيضها من الكذب، ويأنفون منه، ويستنكرونه عليهم، ويرونه من شيم العبيد. وفي مواقف كثيرة، كان العربي لا يجرمنّه شنآن قوم أن يكون صادقاً فيما يروي عنهم، فحين سأل هرقل أبا سفيان، قبل إسلامه، عدداً من الأسئلة تتعلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وصفاته، ومفهوم ما يدعو إليه، أجابه أبو سفيان بصدق وأمانه، وتجنّب الكذب؛ حياءً من أن يُقال عنه كاذب، وباعتباره سيداً في قومه، ولا يجوز أن يتفوه بالكذب سيدٌ في قومه. فتذكر الرواية أن أبا سفيان قال «فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيََّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ (وفي لفظ ابن إسحاق: فوالله لو كذبت ما ردُّوا عليَّ، ولكنِّي كنت امرأً سيدًا أتكرم على الكذب). وقد أقرّ الإسلام الوفاء بالعهد وصدق الحديث، وعدّها من مكارم الأخلاق، وحثّ المسلمين على التحلي بها، وامتدح من تخلّق به، فقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 34)، وقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} (البقرة 177). كما حثّ على أداء الأمانة باعتباره لوناً من ألوان الوفاء بالعهد، وعدّها من شروط الإيمان ففي الحديث الشريف «لا إيمان لمن لا أمانة له». كما نهى عن الخيانة، حتى لمن يخون، ففي الحديث الشريف يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن مَن خانك». ولعل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ما يوضح بجلاء تقدير الإسلام لهذه الأخلاق الكريمة، واعتباره الكذب في الحديث، وعدم الوفاء، وخيانة الأمانة، صوراً من النفاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أُؤتمن خان»، متفق عليه. ** **