خصص صالون الأدب الروسي- مجموعة قرائية أسسها الشابان النشيطان «غيث حسن ومحمد المرزوقي» على الجودريدز- شهر أبريل لقراءة رواية «كتاب الرسائل» لميخائيل شيشكين (ترجمها عن الروسية د. فؤاد المرعي، صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2013)، وعلى الرغم من أن قراءة الأدب الروسي لها لذة مميزة، إلا أن هذه الرواية كانت حالة خاصة لعدة أسباب. يعد ميخائيل شيشكين واحدًا من أهم كتّاب روسيا المعاصرين، والكاتب الوحيد حتى الآن الذي فاز بثلاث جوائز أدبية روسية. كما أنه اتخذ موقفًا شجاعًا حين أقدم على الانسحاب من معرض أمريكي للكتاب عام 2013، رافضًا أن يكون «ممثلًا لنظام فاسد ومجرم». في هذا الكتاب- كتاب الرسائل- يتبادل عاشقان الرسائلَ التي يفتتحانها بجملة «في البدء كانت الكلمة»، إذ تتحول الكلمة هنا إلى حياة يحاول كل منهما استخلاص معناها بطريقته الخاصة، ويتماهى الزمن فيها مع الكلمات، «لأن الكلمات هي وحدها التي تسوّغ وجود الموجود، وتعطي المعنى لما هو لحظي، وتجعل من غير الحقيقي حقيقيًا، ومن أنا..أنا». ومع أن الكلمة تتحول إلى حياة، والحياة تستحضر الزمن وتقتضيه بالضرورة، إلا أن الزمن في الرسائل كان مفاجئًا. في فيلم تلفزيوني بعنوان رسالة حب (بطولة كامبل سكوت وجنيفر جيسون لي وإخراج دان كيرتس 1998)، يشتري البطل مكتبًا من متجر لبيع التحف القديمة، يعثر في أحد أدراجه على رسالة حب كتبتها شاعرة من القرن التاسع عشر، فيكتب لها ردًا ويضعه في الدرج ذاته، ويفاجأ بعدها بوصول رد منها، وتصبح هذه وسيلة التواصل بينهما. يتواصل بطلا «كتاب الرسائل» على نحو مماثل، خاصة إن علمنا أن الحرب التي افترق بسببها فولوديا عن حبيبته ساشا، هي الحرب التي تحالفت فيها ثماني دول من بينها روسيا والولايات المتحدة وأرسلت قوات إلى الصين لقمع ما سمي بانتفاضة الملاكمين، التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر وانتهت عام 1901 أي بعد ثلاث سنوات تقريبًا، وقامت في الأساس بعد تعاظم الرهاب من الأجانب في الصين، وبدأ «الملاكمون» بمهاجمة السكك الحديدية والبعثات التبشيرية والدبلوماسية الأوروبية، وقتل الرعايا الأجانب بلا سبب! يتوقف الزمن عند البطل الذي يُقتل في الحرب، لكنه يواصل إرسال الرسائل من الجبهة، متحدثًا عن الموت الذي يحيط به وبرفاقه هناك، وعن بشاعة الإنسان الذي تُظهر الحروب دومًا أسوأ ما فيه. وفي المقابل يواصل الزمن «المختلف أساسًا» دورته لدى ساشا التي تستمر في الكتابة إليه عن حياتها، وما تكابد ما فيها من مشقات، كعملها في المستشفى وزواجها الفاشل ووفاة والديها ورغبتها في أن يكون لها طفل، لأن «الكتابة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الأموات والأحياء والذين لم يولدوا بعد». إنها تكبر مثل أي كائن حي، غير أن حبيبها لا يفعل ويظل متسمرًا عند لحظة معينة من عمره لا يتجاوزها، تمامًا مثلما حدث في أغنية «شادي» لفيروز. تغير العنوان في الترجمة الإنجليزية للرواية، إذ أصبح «النور والعتمة»، وربما نستطيع تفسير ذلك وفقًا لظرف كل منهما، إذ يظل فولوديا في العتمة التي تمثلها الحرب بظلامها وبؤسها وتجهمها، في حين أن ساشا تعيش حياة طبيعية إن صح التعبير، كما أننا نستطيع تفسير هذا التباين بين العالمين من خلال الرمز الذي يسبق رسالة كل منهما. تعلو الدائرة رسائل ساشا، وهي ترمز للشمس «أول دائرة يكتشفها المرء» وللحب الخالد، بينما يعلو مربعٌ رسائل فولوديا، والمربع يرمز للأرض «التي ظُن أنها مربعة لوقت طويل» بحسب المعتقدات، وهذا يعني أن العاشقين لا يتبادلان الرسائل/ الحياة فحسب، بل النور والعتمة أيضًا. لم تقتصر الكلمات هنا على «تسويغ وجود الموجود» مثلما يرى العاشقان، لكنها صار وسيلة للتنقل عبر الزمن، والالتقاء على أرض محايدة تضمن الأمان بوجودها، لأن «أكثر ما يخيف هو ألا تعود الكلمات».