يقولون إن البوح يخفف من الوجع، والمشاركة تقلل من الحمل الثقيل على حاملها، مضى أكثر من شهر على وفاة أخي يوسف -رحمه الله- توفي صباح الجمعة في حادث مع رفيقيه وهم خارجون من معسكر التدريب للدفاع المدني، عندما وصل الخبر تكتم اخوتي الكبار على الأمر حتى يتأكدوا وسافروا لحائل دون أن ينبسوا لنا بشيء. ومن دون أن نعلم كان كل شخص مكتئباً دون سبب وكأن غمامة غشت البيت، وجاء صباح السبت الساعة الثامنة والنصف طلب مني أخي الأكبر أن اشرف على القهوة والشاي وأكثر من الفناجين للنساء والرجال وأن ضيوفاً قادمون من اصحابه.. أردت حينها أن أخرج أفضل ما يمكن من الأواني فاستنكر الأواني الذهبية والفضية وطلب لونا هادئا وبسيطا.. واستنكر من البخور الذي أشعلته واطفأها ثم ناداني لباحة المنزل الخلفية.. كنت أعلم أن هناك أمراً يود قوله لكن لم تكن لدي فكرة قال لي: تأكدي من علاج الضغط ما إذا كانت أمي قد تناولته فأنتِ الكبيرة ونعتمد عليك. تعجبت ولم أنطق فتابع: أخوك يوسف صار له حادث مع رفاقه والله أخذه لرحمته. توقف الزمن واتسعت عيناي وبقيت جامدة دون حراك، تقدم نحوي وعيناه محمرتان مغرقتان بدموع عالقة وقبل رأسي وهمس: عظم الله أجرك. لم أفعل شيئاً وبقيت في مكاني واكتفيت همسا لنفسي: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. أخذت أكررها محاولة تهدئة نفسي وتذكرت قول المصطفى الحبيب: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى..». لم أحاول أن أتذكر شيئاً عن يوسف أردت أن أظل قوية ومتماسكة لأجل والدتي خوفا ورحمة بحالها وقلبها الرقيق. وكلني أخي بنقل الخبر إليها بمقدمات بعد تأكدي من تناولها الفطور والعلاج. عدت للمطبخ ولا أزال أسترجع إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ طلبت من الخادمة أن تغير السفرة وكانت ترفض لأن الضيوف لا يليق بهم تغييرها، إلى أن رأت أني صارمة فغيرتها.. كنت أفكر كيف أخبر أمي، لماذا أنا التي سأكون بهذا الموقف الصعب. كانت أمي على السفرة تتناول فطورها.. دخل أخي يسألني عن الحال خشية أن يحضر المعزيات فتعرف منهم فيزيد حالها.. فتشجعت وسألتها بهدوء إذا كانت قد أخذت دواءها.. تركت رغيف الخبز وقالت بصوت مرتفع: هل حصل شيء؟ قلت ببرود متعمد: لا، أخذت الحبة وأمسكت هاتفها ولا أعلم لماذا خطر ببالها أحد اخوتي الكبار ممن ذهب لحائل للتأكد.. ورنت عليه ولم يجب فصارت تبكي وتنادي باسمه ونحن نحاول تهدئتها ونحلف لها أنه بخير.. حتى كلمها. فسألت بخوف وفزع يقطع القلب: ما الذي حصل أخبروني وكانت تجرني من ثوبي وتقول عبارة هزتني هزا: أنا أصدقك يا سارة انتِ لا تكذبين هناك مصيبة ما هي؟.. بلعت ريقي ودموعي وقلت بتماسك: كل خير.. يوسف حصل له حادث وهو بالمشفى والشباب عنده ادعي له. فأخذت تبكي وتنادي باسمه وتريد زيارته.. أخذناها للغرفة.. وكان بعض الرجال قد جاء للعزاء. كذبت عليها وأرجو من الله أن يغفر لي ويسامحني، قلت لها وهي تطلب مني أن يلتقطوا له صورة.. ونفسي تكاد تنفجر أخبرتها أن العناية تمنع التصوير وأن عليها أن تصلي وتدعي الله أن يشفيه. صلت ركعتين وأطالت السجود وكانت تدعو وتبكي أن يحفظ الله ابنها ويشفيه.. كان منظراً موجعاً. وكان نساء اخوتي قد اجتمعوا حولها محاولين معي الوقوف بجانبها.. ولم أستطع أن أخبرها.. وهي تلح علي أن أتصل ربما أفاق وتحسن.. فاتصلت بأخي الكبير واخبرته اني حاولت أن أمهد... ولا أستطيع المتابعة أكثر.. والآن كلمها أنت فكلمها وأخبرها أن الأمانة رجعت لباريها. فقلت لها بسرعة: قولي {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فالأجر عند الصدمة الأولى.. فاسترجعت الله وظلت هادئة أكثر من خبر كونه بالمشفى ودموعها تذرف من عينيها بهدوء، ضمتتها وكنت أقول كلاماً لا أعرف كيف قلته.. ولكن كنت أعرف أني كنت بحاجة إليه. ما هي إلا دقائق حتى جاءت المعزيات وامتلأ البيت وكان البكاء ممن يهمهن الأمر والبكاء ممن يقوم بواجب العزاء فيعتصر الدمعة وهو يسلم وما إن يعطيك ظهره حتى يضحك ويتحدث ويمزح. بقيت مع أمي حتى جاءت اخواتي الكبيرات وظللن معها. حينها وجدت نفسي وقد تحطم السور وهربت من الجميع، حيث مكان لا يصلني فيه أحد .. في الباحة الخلفية حيث مكان الخبر الذي ابكى أخي، وابكي الصور التي تمر لتجبرني على البكاء.. يوسف كما أحب أن اسميه الأمير الشاب.. كان يقول لي: سآخذ اجازة خارجية لأحضر زواجك. يوسف أيها الأمير الشاب ليرحمك الله رحمة واسعة. وليصبر الله قلب أمك التي لا تزال تدمع عيناها كل يوم وتصلي وتدعي لك.. ولأن رحمة الله أكبر من رحمة الأم ستكون بخير بإذن الله.