الذين يتابعون ثقافية الجزيرة لا شك يتذكرون ما كتبناه عن تضاؤل دور الممثل في السينما بمعناه المتداول! وكنت توقّعت في ذلك المقال أن دور الممثل سوف يتلاشى بمرور الزمن وبضرورة التقنيات الجديدة والتطورات في عالم المرئيات. قد يصبح الممثل صوتاً مسموعاً وليس شكلاً حاضراً على الشاشة، صوتاً يكمل الدمى المتحركة التي بدأت تقترب بشكل مدهش من شكل الإنسان في حركته مع حرية الإضافات التي تصنعها المخيلة وربط الحاضر بالماضي بالمستقبل في تطور شكل الإنسان، ما يمكن نسج قصص وروايات من الخيال وتحقيق مجسدات عبر الأبعاد الثلاثة ورسم أكوان ومواقع تصوير يصعب تحقيقها على أرض الواقع. كما يتوقّع أن تستعيد السينما شخصيات نجوم السينما الذين رحلوا عن هذه الدنيا بعد أن لمعوا في سماء الفن، وتحريكها من جديد وكمن يعيد إليها الحياة. ويدخلونها في قصص وحكايات وأفلام جديدة، أو قد يثار مخرج بشخصية ما في الشارع ويلتقط له لقطات من زوايا مختلفة ثم يصنع منه نجماً وبطلاً يحركه كيفما يشاء! من وارشو قامت المخرجة «دوروتا كوبيلا» وهي رسامة متخرّجة من أكاديمية الفنون الجميلة في العاصمة البولندية بمحاولة بحث فكرة الحياة والموت التي سكنت وجدان الرسام الهولندي «فينسنت فان كوخ» ودرست لوحاته والشخصيات التي تضمنتها لوحاته، وفكرت في تحريكها كشخصيات حقيقية لأنها كانت كذلك وعاصرت شخصية الرسام العالمي «فان كوخ» وأطلقت للفيلم عنواناً جميلاً هو «في حب فينسنت». وحتى تحقق مثل هكذا عمل لا شك تحتاج إلى تمويل غير عادي، لأن العمل يتطلب مستوى تقني وتشكيلي، لكن ستوديو Breakthru هو من سيتولى تنفيذ الجانب التقني الذي يستغرق ثمانين دقيقة أخذ على عاتقه تحمل كلفة المشروع لأنه يدرك مدى تعلق الناس بحياة الرسام الهولندي «فان كوخ». وفر المنتج للمخرجة ستين رساماً مهماً حتى يعيدوا تأسيس لوحات «فينسنت فان كوخ» ويتمكن التقنيون من تحريك الشخصيات المرسومة في اللوحات، فإحتاجوا لتحريك الشخصيات وتحريك الطبيعة من الأشجار والطيور التي تضمنتها لوحات فان كوخ، احتاجوا إلى رسم ستة وخمسين ألف لوحة مكررة من كل لوحة، كما وسوف يتضمن الفيلم رسائل فان كوخ المتعددة لأصدقائه. مخرجة الفيلم «دوروتا كوبيلا» الرسامة والمخرجة التي تخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة في وارشو قالت أن إحدى رسائل فان كوخ لأخيه قال فيها «لا يمكننا أن نتخاطب إلا من خلال الفن» هذه الكلمات تقول المخرجة مهمة جداً بالنسبة لي، وهي التي كانت تشكل الدافع لإنجاز هذا الفيلم الفني الكبير. إننا نحكي قصة الفنان فان كوخ من خلال فنه. لقد اختارت المخرجة مائة وعشرين لوحة من أعمال فان كوخ التي تحقق لها تجسيد فكرة الحياة والموت. ويقول منتج الفيلم «هيو يلشمان» أن الرسامين الستين الذين يعيدون تأسيس لوحات فان كوخ عليهم أن ينجزوا أعمالهم بسرعة غير عادية وبمستوى جيد لما تقتضيه طبيعة التحريك بالانسجام مع التقنيين. ومن الجدير بالذكر أن كافة اللوحات التي تعيد تأسيس لوحات «فان كوخ» وهي ستة وخمسين ألف لوحة كلها تنفذ بمادة الزيت المستعمل في رسم اللوحات. وإن الثانية الواحدة من الفيلم كي يتم تحريكها وتبعث فيها الحياة فإنها تحتاج إلى اثنتي عشرة لوحة زيتية! هذا ما قاله المشرف التقني على التحريك «بيوتر دومينياك» وحتى ينجز الرسامون اللوحات بالسرعة المطلوبة وبمادة الزيت المستعملة للرسم فإنهم يلجأون إلى الطرق القديمة في تنفيذ بوسترات الأفلام الكلاسيكية وذلك بأن تعرض لوحات فان كوخ على شاشة خلفية ويقلدها الرسام في إعادة رسمها. في مجال التنفيذ التقني وكتابة سيناريو لمثل هكذا فيلم، يتطلب مخيلة متميزة وغير عادية. فالرسام الهولندي «فان كوخ» أدخل عالم اللامعقول، في فن التشكيل قبل أن يعرف كظاهرة ثقافية في فن المسرح، وكثير من لوحاته يحتاج المتأمل لمعرفة شكل التكوين وموقع الشخصيات من اللوحة وهي تمتزج بقيمة لونية «هارموني» يحتاج المتلقي المتأمل وقتا يقف فيه أمام اللوحة كي يكتشف تداخل التشكيل مع هارموني اللون، هذه القيمة الفنية لا يمكن معرفة إلى اي درجة سيساعد الفيلم في «تفسير اللوحة» من خلال إعادة الحياة لشخصياتها ومكوناتها الطبيعية. أظن أن المخرجة تنتظرها فرصة قد تضعها في مقدمة صناع الأفلام العظيمة والعبقرية. ستوديو Brekthru Films الذي أخذ على عاتقه تنفيذ الفيلم، له تاريخ ممتاز بأفلام التحريك فقد سبق وأن فاز بالأوسكار عام 2008 بعد فوزه بجائزة الجمهور عام 2007. فكرة تحقيق فيلم «في حب فينسنت» لم تكن قد صممت لتحقيق فيلم طويل، ولم يكن العاملون بنتظرون أن يضرب الفيلم ضربته الإعلامية ويستقطب الأضواء الإعلامية إلا حين أدرك المنتج أن الفيلم هو شيء خارق في مجال السينما، وهو الآن في طور الإنجاز فإن الترقب الثقافي ينتظر أن يراه على الشاشة، وسيشاهده بالتأكيد في هولندا وحدها أكثر من عشرة ملايين مشاهد، أولئك الذين يعتبرون «فان كوخ» قدرة عبقرية في .مجال الفن التشكيلي وفي الثقافة الإنسانية. عامان لما تزالا لاستكمال العمليات الفنية اللاحثة لحين أن يصبح الفيلم جاهزاً لكي يشاهد على الشاشة الفضية. لقد شكل طابور من الجمهور الذين يودون مشاهدة معرض الرسائل التي كتبها فان كوخ لأصدقائه، دافعا للشركة المنتجة كي تحلم بحجم الجمهور الذي سيشاهد هذا الفيلم. «في حب فينسنت» حدث ثقافي يترقبه العالم بشغف شديد، ومنه تبدأ خطوة تقاعد الممثلين والنجوم وسيدخلون ربما عالم البطالة وستظهر مخيلة التقنيين، منتظرين عبقرية كاتب خيال ومخرج متخيل وجمهور يسرح في عالم الطفولة حتى وإن كبروا في العمر! فيلم في حب فينست يعيد الحياة للراحل «فان كوخ» ويعمل على تحريك فرشاته المرهفة ليس على كونفاس الرسم بل على شاشة السينما.