لم تكن قضية «الإفلاس» مطروحة؛ حتى في أحلك الظروف المالية والاقتصادية والسياسية؛ التي مرت بها المملكة منذ تأسيسها وحتى اليوم. وعلى الرغم من الأزمات المالية والاقتصادية والظروف الحرجة التي مرت بها المملكة بعد حرب الخليج الأولى والثانية التي استنزفت الاحتياطيات؛ وراكمت الديون وشهدت فيها أسعار النفط انخفاضا حادًا بلغ 12 دولارًا نجحت القيادة السعودية بفضل الله وبركته في تجاوزها بصمت وحكمة وتقييم شامل لمآلات الأمور. وكان أشد تلك الأزمات حين تجاوزت نسبة الدين العام حاجز 109 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 1998؛ وهي من أعلى المعدلات المسجلة آنذاك؛ مع عدم وجود احتياطيات قادرة على مواجهة الاحتياجات العاجلة؛ إضافة إلى تأثر الغطاء النقدي للريال السعودي. لم يخرج مسؤول سعودي؛ آنذاك؛ ليتحدث عن «إفلاس» المملكة أو حتى دخولها أزمة مالية حادة. قضية «إفلاس الدول» قضية معقدة لا يمكن الولوج إليها بسهولة؛ أو التصريح عنها وتوثيقها إعلاميًا؛ بل إن اليونان التي اضطر المجتمع الدولي إلى شطب بعض ديونها لتعثرها وعجزها عن السداد؛ إضافة إلى شطبها نصف ودائع المودعين في البنوك لعدم توفر الأموال الكافية لدى البنك المركزي لم تصدم العالم بفرضية إفلاسها؛ بل فاوضتهم للحصول على قروض إضافية لضمان تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية ومعالجة أزمتها الخانقة. في الوقت الذي صرح فيه أحد مسؤولينا بإمكانية الإفلاس خلال ثلاث سنوات تلقت المملكة تصويتًا عالميًا على ملاءتها المالية؛ وقدرة اقتصادها على مواجهة الأزمات؛ حين بلغ حجم الطلب العالمي على سنداتها 67 مليار دولار، في مقابل حجم الإصدار المحدد سلفًا ب 17.5 مليار دولار. لم يرتبط التصويت الدولي بحجم تغطية السندات الاستثنائي؛ وثقة المستثمرين بالسعودية؛ بل ارتبط أيضًا بشركات التصنيف العالمية التي أعطت السعودية تصنيفات مرتفعة انعكست على تصنيف سنداتها الدولارية؛ التي حصلت على تصنيف AA- من وكالة «فيتش» العالمية؛ وكأنها تفند بطريقة علمية «فرضية الإفلاس». لا يمكن لدولة تحتفظ بأكثر من ربع الاحتياطيات النفطية في العالم؛ إضافة إلى أنواع مختلفة من المعادن وتمتلك رابع احتياطات نقدية على مستوى العالم، وأصول أجنبية تقدر ب587 بليون دولار، ولا تتجاوز نسبة الدين العام فيها 6 في المائة؛ إضافة إلى مقوماتها الاقتصادية الأخرى؛ واحتضانها بيت الله الحرام؛ الذي يعطيها بركة من الله الغني الحميد أن تتعرض للإفلاس. لن أسهب في الجوانب المالية والاقتصادية التي تنقض فرضية «الإفلاس» جملة وتفصيلاً؛ فالزملاء قد أشبعوها تفنيدًا وتوضيحًا؛ غير أني سأتناول جوانب «البركة» الربانية التي يغفل عنها الاقتصاديون والمستشارون المسؤولين عن وضع الخطط وتقييم المخاطر. الإيمان بكتاب الله وما جاء فيه من دعوة سيدنا إبراهيم «رب اجعل هذا بلدًا آمنًا وأرزق أهله من الثمرات» تغني عن أرصدة العالم المحسوسة؛ ففيها كل البركة التي لن يخذلنا الله أبدًا متى ما آمنًا بها؛ وتوكلنا عليه حق التوكل. قال تعالى: «وَلَوْ أن أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض» فالبركة أساس الرزق؛ إذا حلت في مال قليل أكثرته؛ وإن نزعت من الثروات الطائلة محقتها. البركةُ هِبةٌ من الله؛ تتجاوز الأسباب الماديَّة التي يعمل بها البشر، فإذا بارك الله في الجهود سددها ورزقها سبل الرشاد؛ وإذا باركَ في المال أكثره، وأصلحَه ووجه صاحبه لإنفاقه في أوجهه المباركة التي تعود بالنفع والصلاح؛ وإذا بارك في الأوطان جعلها آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. ومن فضل الله وبركته على هذه البلاد وأهلها أن جعلها حاضنة للبيت الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ورزقها الأمن والاستقرار والرزق الواسع؛ وأفاض عليها من خيرات كثيرة في باطن الأرض وظاهرها. والتنعم بخيرات الله لا يعني استمراريتها دون منغصات؛ قال تعالى: «وتلك الأيام نداولها بين الناس»؛ وكم من المنغصات الاقتصادية التي مرت بها هذه البلاد؛ إلا أنها لا تلبث أن تزول ببركة من الله وتوفيقه؛ لا تدبير البشر؛ وأكبر دليل على ذلك عندما وصلت نسبة الديون إلى 109 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي؛ وشحت أرصدة الدولة؛ حتى عجزت الحكومة عن توفير رواتب موظفيها جاءها الفرج من الله بارتفاع أسعار النفط من 12 دولارًا إلى 148 دولارًا مخالفة بذلك جميع التوقعات الاقتصادية؛ ما ساعد على سداد جل الدين العام لتصل نسبته إلى 1.6 في المائة ومن ثم بناء الاحتياطيات المالية التي تجاوزت 1.6 تريليون ريال؛ والإنفاق بسخاء على مشروعات التنمية التي كانت قد توقفت لأسباب مالية صرفة. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ». لا خلاف على أهمية التخطيط؛ والعمل الجاد لبناء الاقتصاد على أسس علمية حصيفة؛ إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه بمعزل عن «البركة» التي نسأل الله أن يجعلها حاضرة في كل عمل نقوم به. وفي قصة يوسف عليه السلام عبرة للبركة المتداخلة بين العمل وتوفيق الله سبحانه وتعالى. فالتدبير البشري الذي قام به حاكم مصر جاء ببركة الله التي جعلها في سيدنا يوسف عليه السلام؛ بل إن ذلك التدبير لم يكن ليغني عن رزق الله شيئًا لولا السبع السمان الأخيرة التي أغيث فيها العباد وعصروا بفضل الله وبركته. قال تعالى: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إلى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ»، فأجابه يوسف عليه السلام، كما ورد في كتاب الله العظيم: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلا قليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يأتي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلا قليلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يأتي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ». لقد من الله سبحانه وتعالى على أهل مصر وملكها بأن أرشدهم إلى ما يحفظون به خيرات الرخاء لأيام الشدة، وأمر الله نافذ، فتحققت الرؤيا، وأنجى الله أهل مصر من مجاعة ماحقة ببركته أولاً ثم بحسن التدبير الذي أرشدهم إليه، سبحانه. والبركة والإيمان صنوان؛ ومن آمن بالله لا يخشى الفقر وإن رآه ظاهرا؛ فالله تكفل بأرزاق عباده وأقواتهم وهو الرزاق الكريم؛ قال تعالى: «أولمْ يَرَوْا أن اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ أن فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»؛ والتفاؤل منهاج المؤمن؛ حتى في أحلك الظروف؛ كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن؛ ويوصي رسله بقوله «بشِّروا ولا تُنفِّروا»؛ بل إنه بشر بفتح بلاد الشام وفارس وهو يحفر الخندق لحماية المدينة من المشركين؛ إنها قمة الإيمان بالله والتفاؤل الذي نرجو الله أن يرزقنا بعضه في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي سيطر بها الجزع على السكينة والخوف على الأمن والإفلاس على الغنى والوفرة المالية لدى الكثير. أختم بقوله تعالى: «وإذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذا هُمْ يَقْنَطُونَ» نعوذ بك اللهم أن نكون من القانطين.