إذا كان الإنسان مٌطالبَاً بأن ينظر إلى الأمام كثيراً فهو في حاجة إلى النظر إلى الخلف ولو قليلاً. فكما يهتم بمستقبله كثيراً يجب أن يهتم بتاريخه ولو قليلاً، فالتاريخ هو الذاكرة الحيَّة المتجددة، والوعي به يعني الوعي بالحياة،وبالحاضر،وربما بالمستقبل أيضاً. والتاريخ لا ينزع عن نفسه ثوباً قد اخترق واهترىء إلا ليتسربل بثوب جديد، فما أشبه الليلة بالبارحة، وهكذا يعيد التاريخ نفسه، فيأتي في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كملهاة كما قال أحد الفلاسفة. ويفقد الإنسان ذاكرته إذا لم يقرأ التاريخ، ويفقد وعيه إذا نظر للتاريخ على أنه قصص وحكايات فلا يعي ما فيها ولا يتعلم من أخطائه. إن وراء هذه القصص والحكايات أسباباً ودوافع، وأحداثا ووقائع، ونتائج وتوابع. وصدق ابن خلدون حين قال عن التاريخ «هو في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق». وهناك الكثير من الحوادث والوقائع الفارقة في التاريخ، تحمل من الدلالات الكثير، وتحتاج إلى قراءة واعية. من هذه الأحداث التاريخية،حادثة فريدة في تاريخ مصر تسمى بمذبحة القلعة أو مذبحة المماليك 1811م. والقلعة هي القلعة التي بناها صلاح الدين الأيوبي فوق جبل المقطم عام 579ه تحصيناً للقاهرة وحمايةً لها، وكانت مقراً للحكم فترة طويلة. أما المماليك فهم سلالة من الجنود أو العبيد استقدمهم الأيوبيون من آسيا الوسطى، استقروا بمصر وزاد نفوذهم حتى تمكنوا من الاستيلاء على السلطة فيها عام 1250م. وكان نظامهم العسكري يقوم على استقدام العبيد، في الأغلب أطفالاً، من بلدان غير إسلامية، خليطاً من الأتراك والروم والأوربيين والشراكسة وتربيتهم وفق قواعد صارمة في ثكنات عسكرية معزولة عن العالم الخارجي. وبفضل هذا النظام تمتعت دولتهم بنوع من الاستقرار والولاء.وكان لهم الفضل الكبير في صد الغزو المغولي على الشرق الإسلامي في موقعة عين جالوت (25 رمضان 658ه/ 3 سبتمبر 1260م) بعد تدمير عاصمة الخلافة العباسية في بغداد. كما حرروا العديد من المدن والإمارات الاسلامية في الشام من سيطرة الصليبيين، وقضوا على آخر معاقلهم في «عكا» عام 1290م. وامتد ملكهم ليشمل مصر والشام وبعض أجزاء من الجزيرة العربية. ولم يكن اهتمام المماليك، منصَّباً على الحياة العسكرية التي تربوا وجُبلوا عليها، بل اهتموا بالأوضاع الحضارية من بناء للمدارس والمساجد والعمائر، فكان عصرهم أزهى عصور فن وهندسة العمارة. وامتد اهتمامهم ليشمل الزراعة والصناعة، إلى جانب اهتمامهم بالعلم واحترامهم للعلماء وتقديرهم لهم. فظهرت في عهدهم الموسوعات العلمية والأدبية، مثل: «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» للقلقشندي، و»نهاية الأرب في فنون الأدب» للنويري.كما ازدهرت في عهدهم التآليف التاريخية، مثل المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، وكافة مؤلفاته، ومؤلفات ابن تغري بردي وغيرهما. والناظر إلى قيام دولة المماليك (البحرية والبرجية) وانهيارها، يتأكد من أن الأيام دول، وأن حياتهم في السلطة قريبة الشبه بحياة الإنسان ذاته على الأرض، والتي تبدأ من ضعف ليعلو مؤشرها إلى قوة ثم تعود كرة ثانية إلى الضعف فالفناء والزوال. ولقد كانت النهاية المؤلمة والقاسية للمماليك، أُبَّهة العصر المجيد، في مذبحة القلعة. فبعد جلاء الفرنسيين 1801م، واضطراب الأوضاع الداخلية، وتحوُّل بقايا المماليك إلى استغلال السلطة والسلاح وإذلال الشعب المصري ونهب ثرواته، نادى زعماء الشعب ومشايخ الأزهر بزعامة الشيخ عمر مكرم، بتنصيب محمد علي، قائد الجند المرسلة من قبل السلطان العثماني لاستتباب الأمن، والياً على مصر. ويبدو أن للسلطة بريقا لا يدانيه بريق، فهي لا تريد غير الإخلاص لها، ومن يصل إليها لا يريد شريكا له فيها، فكان أن عضّ محمد علي اليَّد التي مُدَّت له، وترفَّع على من رفعوه، فنفى السيد عمر مكرم الزعيم الشعبي، والذي ألبسه خلعة الولاية، إلى دمياط بعيداً عن القاهرة بنحو 200 كم ليكون تحت الإقامة الجبرية سنوات لا يخرج منها حتى إلى الحج. وكانت خطوته التالية التخلص من المماليك، ذلك الصداع المتشبث برأسه ورأس سلطته، فما زالت أيديهم ورماحهم تصل إلى عمق المجتمع المصري، والصعيد تحت سيطرتهم المطلقة، وما زالوا يصرون على أن حكم مصر حقٌ موروث لهم. وللتخلص منهم لجأ محمد علي إلى مناوبة تعاملهم بالعصا حيناً، والجزرة حيناً أخرى، فجرَّد لهم الحملات الواحدة تلو الأخرى، فلجأوا إلى الكرِّ والفرِّ. ورأى المصالحة فأبقاهم على حكم الصعيد على أن يمنحوه خراج الأراضي، فاستقر رأيهم على قبول الأمر الواقع، فوافقوا ولم ينفذوا. فلجأ إلى حيلة «فرِّق تَسُد»فابتدأ باستمالة بعضهم بالمال والإقطاعيات والقصور. والحقيقة أن قراءة الواقع، ومعرفة طبيعة العدو، وفهم نفسيته، هي نصف الطريق للانتصار عليه، هكذا فعل محمد علي. فقد أدرك أن كبيرا المماليك المعترف لهما بالزعامة، وهما: إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن، مع ما أصابهما من ضعف وشيخوخة، فقد ظلاّ على عهدهما القديم من كراهيتة وعدم الثقة في مقاصده. فصرف مساعيه إلى استمالة صغار المماليك، فأوفد رسله إليهم يدعوهم إلى الطاعة، واستمالهم إليه بإغداق المال والمناصب والاستقطاعات عليهم، وانتهى بهذه الوسيلة الى فصم عراهم واجتذاب بعضهم إلى العاصمة فضربوا صفحاً عن عيشة الكفاح والقتال وركنوا إلى الدعة والراحة. والواقع أن المماليك قد أصابهم الوهن وتسرب اليأس إلى نفوس أغلبهم. فاستغل محمد علي حالتهم هذه ليطرق على الحديد وهو ساخن، فجرَّد جيشاً لاخضاع بقيتهم واستخلاص الصعيد من أيديهم. وينجح في هذا، بعد انسحابهم إلى الجبال القريبة قبل أن يطلبوا الصلح. فأملى القوي شروطه على الضعيف، كما هي سُنَّة التاريخ. فاشترط عليهم محمد علي أن يرحلوا عن الوجه القبلي، ويقيموا في القاهرة، على أن يعطيهم بعض الجهات يستغلونها ويدفعون الضرائب التي تفرض عليها. وما فعل ذلك إلا ليكونوا تحت عينيه، فابتلع المماليك الطُعمَ، واستطابت لهم الإقامة في القاهرة، وتخلوا عن القتال والنزال، وأهوال الكرِّ والفرِّ، وانصرفوا إلى أسباب الرفاهية والرغد. وهكذا أخضع محمد علي الصعيد لحكمه، ودانت له مصر بوجهيها القبلي والبحري. وكما تقول الحكمة «إن الدنيا إذا اقبلت بلت وإذا كست أوكست»، لم يدر بخلد المماليك ما يخبئه لهم القدر من خاتمة، وما يضمر لهم محمد علي في نفسه. فمازال يتوجس منهم خيفة، ويراهم شوكة في ظهره، وخشي أن يعودوا لمناوأته ويتمردوا عليه، فنوي أن يُجهز عليهم، فدَّبر لهم المذبحة الكبرى. وواتته الفرصة عندما أرسل السلطان العثماني يطلب منه تجريد جيش للحرب في الحجاز. فخشي إذا خرج الجيش يفكر المماليك في انتهاز هذه الفرصة ليقضوا عليه. وعلى طريقة شكسبير «أكون أو لا أكون»، أراد محمد علي أن تكون له الضربة الإستباقية فكانت فكرة اغتيالهم في المؤامرة المعروفة بمذبحة القلعة. فقد دعا زعماءهم إلى القلعة بحجة أنه سوف يقيم حفلاً لتوديع الجيش الخارج للحجاز، فأتوا في كامل حلتهم «بثيابهم الموصلية، والفراء السيبيريه» وهم فوق الخيول العربية ببقايا عزهم مثل الشهب،وبدون سلاح، ولم يدر بخلدهم سوء نيته وأنها النهاية الدامية. وفى يوم الحفل المشئوم (الجمعة 6 صفر 1226ه/ 1 مارس 1811م) دعاهم محمد علي لكي يمشون في موكب الجيش الخارج من القلعة للحرب. وكعادة كل ماكر خبيث، يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويدُّس السمَ لك في العسل، استقبل محمد علي بكوات المماليك بالبشر والحفاوة، وقدَّم لهم القهوة، وشكرهم على إجابتهم دعوته، حتى إذا ما أذَّن المؤذن بالرحيل، قرعت الطبول وصدحت الموسيقي، إعلانا بالتأهب لتحرك الموكب.طلب محمد علي من المماليك أن يسيروا في صفوف الجيش لكي يكونوا في مودعيه. تحرك الموكب، ومرَّ في طريق ضيق من طرق القلعة تحيط به الصخور على الجانبين، متوجهاً ناحية أحد أبواب القلعة للخروج منها، يتقدمه الفرسان والجنود ثم المماليك، ومن بعدهم بقية الجنود فرساناً ومشاة، وعلى أثرهم كبار المدعوين من أرباب المناصب.حتى إذا ما اجتازت الباب طليعة الموكب، ارتجَّ الباب وأُقفل من الخارج فجأة إقفالا محكماً في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود. وانطلقت رصاصة، كانت إشارة البدء لمذبحة تاريخية، فتسلق الجنود الصخور التي تكتنف الطريق الضيق وتعلوه يمينا ويساراً، وأخذوا مكانهم على الصخور والأسوار المشرفة عليه. وبينما هم محصورون في هذا الخندق الضيق، والباب الضخم مقفل في وجوههم، والجنود من ورائهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، انهال الرصاص على المماليك بغزارة من كل صوب فحصدهم حصدا، وجاءهم الموت من كل مكان فصاروا كالهشيم المحتظر. ومن ترجَّل منهم عن جواده وأراد النجاة متسلقاً الصخور تلقفته البنادق أينما صعد، ومن لم يمت بالرصاص أجهز عليه السيف. واستمر القتل حتى إمتلأ المكان بجثث كل من دخل من المماليك، ولم ينج منهم إلا واحد يُسمى «أمين بك»، كان في مؤخرة الصفوف، فقد وصل متأخراً، فلما رأى الرصاص ينهال على زملائه هرب بحصانه وقفز به من فوق سور القلعة، الذي يعلو ستين قدماً عن الأرض، ليسقط مغشياً عليه، ويلقى الحصان حتفه. وتقول رواية إن بعض اللصوص بادروا إلى سرقة سلاحه ونقوده لما رأوه مغشيا عليه، وأصابوه إصابة بالغة فى عنقه، لينجو مرة ثانية من الموت عندما ينقذه بعض البدو الذين عالجوه، وأخفوه لديهم حتى هرب إلى الشام. ولقد أحكم محمد علي تدبير المؤامرة، فلم يقف على سرها إلا أربعة من خاصة رجاله، وهم قائد جنوده، وأحد ضباط الجند، وهو الذي أمر بإقفال الباب وأعطى إشارة القتل إلى رجاله، والكتخدا بك (أمينُ الوالى أو وكيله) محمد لاظوغلي، وحارس الباب إبراهيم أغا. وكان محمد علي جالساً في قاعة الاستقبال، يراقب الموقف من بعيد،إلى أن حصد الموت معظم المماليك، وأخذ صوت الرصاص يخفت ليعلن نهاية المأساة. وقيل إن دماء القتلى قد سالت فأغرقت المكان، واندفعت إلى الطريق المجاور لباب العزب حيث المقتلة. وعلى الرغم من أوامر محمد علي لجنوده بغسل الطريق فيما بعد، إلا أن لون أرضه ظل أحمر من كثرة الدماء التي التصقت بأرضه، وهو ما جعلهم يطلقون عليه اسم «الدرب الأحمر». وقيل إن جنود محمد علي قد نصبوا مصطبة أمام باب زويلة وعلَّقوا عليها رءوس القتلى لتكون رادعا لمن تُسوِّل له نفسه تحدي السلطة الجديدة. والواقع أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل أراد محمد علي أن يستأصل شأفة المماليك جميعاً والتخلص من فلولهم. فأعقب ذلك نزول الجنود يقصدون بيوتهم في أنحاء القاهرة، فاقتحموها قتلاً ونهباً واغتصاباً، وتجاوزوا بالقتل والنهب الى البيوت المجاورة، وبلغ عدد المنازل التي نهبوها خمسمائة منزل، وأصبح اليوم التالي (السبت) والسلب والنهب والقتل مستمر في المدينة، واضطر محمد علي إلى النزول من القلعة في صحوة ذلك اليوم وحوله رؤساء جنده وحاشيته لوضع حد للنهب والإعتداء، وأمر بقطع رءوس من استمروا في النهب والإعتداء، وكذلك فعل ابنه طوسون. ويقول المؤرخ الجبرتي: «ولولا نزول الباشا وابنه في صباح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر». ولم ينج من المماليك في هذه المقتلة العظيمة إلا من هرب من المدينة مختفيا وهاجر الى الوجه القبلي، ليتتبعهم حكام المديريات بأمر من محمد علي اعتقالاً وقتلا. السياسة دائما بلا قلب، واللعنة على السياسة حين يتحول الصراع فيها إلى هذا الشكل الدموي والاغتيال الوحشي اللا أخلاقي. قُدِّر عدد من أُغتيل من أمراء المماليك في تلك الليلة بألف رجل في القلعة وفي هجمات مشابهة على أماكن تمركزهم في جميع أنحاء مصر. وتقول رواية أخرى إن الذين قُتلوا داخل أسوار القلعة كانوا حوالي500 من كبار رؤس المماليك ونحو ألف وخمسمائة في الأحياء والمحافظات. وهكذا قضى محمد علي بعملية إغتيال كبرى أعقبتها تصفية جسدية على أقوى خصومه السياسيين، ولم ينج منها سوى60 مملوكاً فروا إلى سورية، لينفرد بالحكم المطلق لمصر. وتبقى هناك مجموعة من الأسئلة ربما يجيب على بعضها التاريخ وربما لا توجد إجابة لبعضها الآخر، لعل أهمها: أين الشعب المصري مما كان يحدث من صراع؟. تؤكد الحوادث التاريخية أن المماليك لم يقدموا للمصريين ما يكسبون به ودهم وتعاطفهم، فقد أنهكوهم بالضرائب والسلب والنهب، كما لم يحظ الشعب المصري بنعيم مصر وثرواتها نتيجة إحتكار محمد علي لموارد البلاد واسئثاره بها، فكان حال الشعب المصري كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كالذي كان يحلم بعالم سعيد بعد قيصر يموت فيأتيه قيصر جديد لا يختلف عن سلفه. هل حصل محمد علي من الخلافة العثمانية على موافقة لإغتيال المماليك بهذه الطريقة البشعة؟. قد يكون حصل هذا، وربما استغل رغبة العثمانيين في مساعدته لهم في حرب الحجاز لتأييده في التخلص من نفوذ المماليك، وربما تلاقت رغبتهما في ذلك تخلصاً من هؤلاء الذين تجذروا في المجتمع المصري على مدار 6 قرون من حكمهم، وما زالوا حتى بعد أن دخل العثمانيون مصر، وأعدمو قائدهم «طومان باي» شنقاً على باب زويلة، يصرون أنهم حكام البلاد الأصليين. هل كانت هناك بدائل من الحوار، والسياسة، والتعامل بالحكمة والكياسة مع المماليك؟ أو حتى مواجهتهم، بفروسية وجها لوجه، بدلاً من الغدر وإراقة الدماء؟ أم أنها الخدعة والحرب والمكيدة؟. قد يبرر التاريخ لمحمد علي فعلته، فكم نقض المماليك عهوداً واتفاقات. وقد يكون المبرر كما يسوقه البعض «وقوفه على مكاتبتهم لمناوئيه مثل بكوات المماليك في الصعيد ووالي الشام «سليمان باشا الكرجي»، وكان معادياً له ودأب على تأليب الباب العالي والمماليك ضده». أي «الاستعداء بالخارج» أو الخيانة المصحوبة بالدليل، فقد صادر محمد علي هذه المكاتبات من المماليك أنفسهم. ولهذا لم يأمن جانبهم ولا مكرهم، وأضمر لهم الغدر كما أضمروا له. ويقول البعض أنه ما فعل ذلك إلا دفاعاً عن النفس فإن المماليك كانوا يتآمرون عليه حين ذهب إلى السويس ليشرف على إعداد السفن اللازمة لنقل جنوده إلى الحجاز، ولكنه غادر السويس ليلاً وعاد إلى القاهرة قبل تنفيذ المؤامرة، التي ربما جعلته يغير سياسته تجاه المماليك، ويقرر الفتك بهم قبل أن يفتكوا به. وقيل إن الإنجليز هم من حرّضوا محمد علي للفتك بالمماليك انتقاماً منهم لخذلانهم لهم إبان حملة فريزر 1807م، وقيل إن محمد علي إنما فعلها بناءً على أوامر الباب العالي. وبعيداً عن أن يكون محمد علي قد فعل ذلك دفاعاً عن نفسه وانتقاماً منهم، واستباقاً أو اتقاءً لغدرهم، أو طاعة لأوامر البيت العالي، أو تلبية لطلب الإنجليز، فهل من المعقول أن يدعو إنسان إنساناً آمنه على نفسه وماله وعرضه إلى طعامه ويغدر بهم، هل يعقل أن يقدم له القهوة وهو يدُّس السم له فيها، أو أن يفتح ذراعيه له لا ليعانقه ولكن ليغرس الخنجر في ظهره؟ يتخلى البعض، إن لم يكن الكل، عن الأخلاق إذا تعلق الأمر بالسلطة. أخافت المذبحة المصريين فلم تقم معارضة أو ثورة على محمد علي طوال مدة حكمه، فقط انتفاضات محدودة في القاهرة فيما بين عامي 1822-1823م، وفى جهات متفرقة من الوجهين البحري والقبلي أعوام 1823م و1838-1839م، واستطاع محمد علي إخمادها دون أن تتطور إلى معارضة حقيقية لحكمه. وهكذا قضت المذبحة على أية إمكانية لنشوء ديموقراطية في مصر بسبب الرعب الذي انتشر من شخص محمد علي مدِّبر المذبحة. هل ندم محمد على على فعلته الاجرامية البشعة، البعض يقول انه تأسف للبشاعة التي تمت بها المذبحة في بداية حكمه؟؟!! كذلك لا يجدي الندم والتأسف دائما ًبعد أن تكون الفأس قد وقعت في الرأس. وهناك تساؤلات أخرى، ربما لم يجب عليها التاريخ بعد، منها: هل ما صنعه محمد علي من نهضة، يغفر له ما صنع بالمماليك من غدر وتعامل دموي لا أخلاقي؟. أليس من طريق لتحقيق النهضة في ظل الحرية والأمان النفسي وعدم الاستئثار بالسلطة؟. وهل يغني الطعام والشراب عن الحرية؟ وهل يكرر التاريخ نفسه بمثل هذه المذابح دون أن يعي الإنسان هذا التاريخ المتعدد الوجوه؟. إن هذه المذبحة التاريخية تحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل صائب لها، ولأسبابها، ومبرراتها، وما اكتنفها، وما ترتب عليها، ووزنها بميزان تاريخي دقيق.