استكمل اليوم الحديث الذي كنت بدأت به في المقالة السابقة عن ورود مصطلح (أرجل) عند العرب قديمًا ضمن الحديث عن عروض الشعر.. النص العربي القديم الثاني الذي ترد فيه كلمة (أرجل) هو نص للفارابي المتوفى سنة 339ه. يقول الفارابي عن ما سماه (علم الأشعار) في الفصل الأول من كتابه (إحصاء العلوم) الفصل المعنون ب (في علم اللسان): «وعلم الأشعار على الجهة التي تشاكل علم اللسان ثلاثة أجزاء : أحدها إحصاء الأوزان المستعملة في أشعارهم، بسيطة كانت الأوزان أو مركبة، ثم إحصاء تركيبات الحروف المعجمة التي تحصل عن صنفٍ صنفٍ منها، ووزنٍ وزنٍ من أوزانهم وهي التي تعرف عند العرب بالأسباب والأوتاد، وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل.» فها هو ذا الفاربي يحدد لنا معنى (الأرجل) كما يفهمها، وهو يضعها في مقابل الأسباب والأوتاد في علم العروض العربي، ويُفهم من نصه كذلك أنه جاء بهذا المصطلح من عند اليونانيين، وهذه أول إشارة تربط مصطلح رجل بالعروض لدى اليونان فنص الكندي أشار إلى الأرجل وقال إنها هي التفاعيل في اللسان العربي دون تحديد، أما الفارابي -كما نرى- ففضلاً عن تحديده اليونانيين يزيد مصطلح (الأرجل) دقة وتحديدًا؛ فبعد أن كان يقابل التفاعيل هكذا على الإطلاق -كما جاء عند الكندي- صارت الأرجل تقابل الأسباب والأوتاد. وطبعًا من المعروف أن السبب في المصطلح العروضي العربي حركة ثم ساكن (- 5) مثل: لا، والوتد متحركان ثم ساكن (- - 5) مثل: بلى. وسأعود لمدى دقة مقابلة مصطلح رجل بالتفاعيل تارة وبالأسباب والأوتاد تارة أخرى في موضعه من هذه الدراسة. أما النص الثالث في سياق هذا التتبع لمصطلح الأرجل لدى العرب القدماء فلابن سينا المتوفى سنة 429ه. ويعلم الباحثون أن الدكتور عبدالرحمن بدوي قد ترجم كتاب (فن الشعر) لأرسطو وحققه ونشر في الطبعة نفسها الترجمة العربية القديمة لكتاب أرسطو وشروح كل من الفارابي وابن سينا وابن رشد. وقد أورد ابن سينا حديثه عن فن الشعر في الفن التاسع من كتابه الشفاء، وهو يبدأ ذلك القسم بفصل يفتتحه بقوله: «فصل في الشعر مطلقًا وأصناف الصيغ الشعرية وأصناف الأشعار اليونانية» ثم بعد مدخل طويل نسبيًا عن الشعر عامة مع أمثلة من الشعر العربي انصرف للحديث عن الشعر اليوناني، وراح يشرح التخييل والمحاكيات في الشعر، وقال إنما يوجد الشعر بأن يجتمع فيه القول المخيل والوزن. ثم عدد بعض الأوزان اليونانية القديمة ومنها مسماه ( وزن ( إيلا ) جيا الثالث) وقال إنه مؤلف من أربعة عشر رجلاً، ووزن (التروكى الرباعي) المؤلف من ستة عشر رجلاً. ثم بعد تفصيل لعدد من الأوزان يقول: «وعلى هذا كان شعرهم المسمى ديثورمبى، وأظنه ضربًا من الشعر كان يمدح به لا إنسان بعينه أو طائفة بعينها بل الأخيار على الإطلاق، وكان يؤلف من أربعة وعشرين رجلاً وهي المقاطع». هاهي (الأرجل) حسب فهم ابن سينا تقابل ما سماه المقاطع. وبذلك وبهذا المرور عبر ثلاثة نصوص رأينا مصطلح ( الأرجل) يتحرك، بل يتأرجح ؛ فهو عند الكندي يقابل التفاعيل، ثم عند الفارابي يقابل الأسباب والأوتاد، ثم ها نحن نرى ابن سينا يجعله مقابلاً للمقاطع. فإلى أين تمضي بنا رحلة مصطلح (أرجل) عبر النصوص؟.