شكل تبادل الهدايا تقليداً عريقاً في تاريخ البشرية سواء في إطار العلاقات الأفراد والجماعات، أو بين الدول، وتأتي المراسلات في مقدمة الاتصالات والعلاقات السياسية، والتي رافقتهافي الغالب أنواعاً من الهدايا، فضلاً عن كونها تعد شكلاً من أشكال الاتصال الدبلوماسي. حيث يعد أدب الرسائل من الفنون الأدبية المعروفة لدى الأمم عامة، وقد اشتمل أدبنا العربي على نماذج بلغيه من هذا الفن، ومن تلك الرسائل «الرسائل المتبادلة بين الملك عبدالعزيز والأديب أمين الريحاني»، والتي استمرت لأكثر من لمدة عقدين من الزمن، في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، خلال الفترة 1922م-1939م. هذه الرسائل إلا أنها على ما حوته من حس أدبي رفيع، وجمال العبارة، فهي لم تكن مجرد رسائل عابرة بقدر ما حوته من موضوعات وأخباراً سياسية، تعد مصدراً لكتابة التاريخ. وعن بداية العلاقة بين الملك عبدالعزيز وأمين الريحاني، يقول أمين الريحاني في أحد رسائلة المؤرخة عام 1922م/ 1340ه: «كتابي أعز الله مولاي السلطان، ورفع به شأن العرب في كل مكان، عن شوق زيارة كل من أعز في الجزيرة حقاً وأزهق باطلاً، وأنتم مولاي في مقدمة ذوي الكلمة والسلطان، والبر والعرفان.. فإذا سمح لي مولاي بزيارته شرفني بكلمة يبعث بها على يد وكيله في البحرين فأستلمها عندما أصل إلى تلك الجزيرة». أما عن لقائه الأول بالملك عبدالعزيز فقد الذي كان في العقير، وفي وصف هذا اللقاء يذكر: «وكانت المشاهدة الأولى على الرمل، تحت السماء والنجوم، وفي نور النيران المتّقدة حولنا.. كان يلبس ثوبًا أبيض، وعباءة بنية، وعقالاً مقصّبًا في كوفية من القطن حمراء، أين أبّهة الملوك وفخفخة السلطان؟.. إنك لا تجدها في نجد وسلطانها، وإن أول ما يملكه منه ابتسامة هي مغناطيس القلوب، لست أدري كيف حييته وأنا في دهشة وابتهاج من تلك المفاجأة الكبيرة. ولكني أذكر أنه حياني باسمًا بالسلام عليكم، وظل قابضًا على يدي حتى دخلنا الخيمة فجلس والكور إلى يمينه يستند إليه، والنار قبالته تنير وجهه». فقد كان موضع تقدير وإعجاب من الملك عبدالعزيز، وقد خصه بعدة هدايا، وعن هذه الهدايا يقول أمين الريحاني، أحد رسائلة المؤرخة عام 1924م/ 1342ه على الملك عبدالعزيز: «أن في بيتي وفي قلبي مائة كنز تّذكرني دائماً بكم، فهلا قبلتم مني ما ليس بالكنز بشيء، ولكنه يذكركم بحب لا حب فوقه وإخلاص لا إخلاص بعده وإجلال ليس فيه غير الحب والإخلاص والإعجاب». كان من ضمن تلك الهدايا المثيرة لإعجاب الريحاني، أحد الخيول الأصيلة، وهي عبارة عن فرس عهد بإرسالها عن طريق وكيله الشيخ فوزان السابق، جاء في رسالة الشيخ فوزان السابق إلى أمين الريحاني المورخة 1923م/ 1341ه «أما الفرس فقد أجّرت لها رجلاً بمعرفة صاحب لنا من الذين يعرفون ويترددون في تجارة الخيل بين الشام وبيروت على أن يتوجه لطرفكم باكر يوم الجمعة الموافق 16 ذي القعدة، يركب كديش ويقود الفرس معها عدتها رشمة ولجام وكشاشة ومعرفة بركاباتها ومخلاية بوصوله إن شاء الله تستلمون الفرس بإغراضها المذكورة، وقد دفعنا له الأجرة فلا يطلبكم بشيء خالص من أجرته ومصاريف الفرس، إن شاء الله ناصية مباركة وإكرام صادق». كما بادر الملك عبدالعزيز بإرسال رسالة على أمين الريحاني لقبوله الهدية بتاريخ 1923م/ 1342ه: «بعد إهداء أجمل التحية وأوفر السلام - أبدي أنه وصلنا كتابكم المؤرخ 18 ذي القعدة سنة 1341 وتلوته مسروراً مبتهجاً بجميل وفائكم، وقد أوجب عظيم امتناني قبولكم للهدية واستحسانكم لها متّعكم الله بما يسركم». في المقابل فقد بادر أمين الريحاني برد الهدية، بهدية من باريس بعث بها مع أخيه ألبرت الريحاني الذي أوفده إلى البحرين للتفاوض مع أحد الشركات الأجنبية يقول: «واني نقدم معه على من له عندي المقام الأول والأكبر مع مثل هذا المقام، ولكن الهدية في نظر المتنبي بلسان حاله إنما هي رمز حقير لإجلال كثير وإخلاص كبير، ولو لم تكن كذلك لما أرسلتها وتأملت قبولها، كنت قد طلبتها في باريس من تسعة أشهر فحال دون وصولها العاجل أمور لا مجال لذكرها، والهدية جفت ومعه مائتان من الخرطوش وناظور كبير». أما عن تسمية الفرس ب»نورة» يتبين من خلال الرسائل المتبادلة، أن أمين الريحاني هو من أطلق تلك التسمية، فيذكر في أحد رسائله عن أخبار هذه الفرس «وإني سميتها تيمناً واحتراماً نورة، وهي بخير وأظنها تولد بعد شهرين»، ثم يرسل مره أخرى عن أخبارها فيذكر أنها أنجبت ذكراً «أما الفرس نورة التي شرفتموني بها فهي بصحة جيدة، وقد ولدت في الشهر الماضي ذكراً ونحن الآن نفتش في البلاد عن رسن مكفولة لنشبيها ثانية»، ثم يطلب بعد ذلك من الملك عبدالعزيز ليرسل له فرس مع أحد القادمين من نجد إلى الشام، بل أنه خص أن تكون من إسطبل الخاص التابع للملك، وذلك لاهتمامه وحرصه على الحفاظ على نسلها وذلك على حد قول الريحاني «لتكون كنزاً خالداً في نسلها في هذه البلاد»، حيث كان أسطبله محط إعجاب الرحالة، وقد أبدى أحمد مبروك إعجابه بإسطبل خيول الملك عبدالعزيز قائلاً: «كان الملك عبدالعزيز يملك نحو ألف من الأفراس، معظمها من خيول أجداده فوضعها في واحة الخرج.. وكان الملك عبدالعزيز يعقد سباقاً كل يوم جمعة بعد صلاة العصر في الرياض، ويعقد سباقاً في الطائف يشهده الأمير فيصل». إسطبلات خيول الملك عبدالعزيز في الخرج يتضح من خلال هذه الرسائل ما أبداه أمين الريحاني من اهتمام بالخيل وأنساب، ولاهتمام العرب بالخيل وأنسابها، تناولوا أنسابها في بعض مؤلفاتهم؛ مثل: كتاب «أنساب الخيل» لابن الكلبي، وكتاب «أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها» للغندجاني، وكتاب «الخيل» للأصمعي وكتاب «الخيل» لابن لابن المثنى، وكتاب «الحلبة في أسماء الخيل المشهورة، في الجاهلية والإسلام» للصاحبي وكتاب «أصول الخيول العربية الحديثة» لحمد الجاسر وغيرها. لم يكتف بذلك فحسب بل إنه يطلب في أحد رسائله أن يدعم أحد الجمعيات التي أقامها السوريون «جمعية نادي الخيل وتحسين نسلها» بهدف لتحسين الخيل والمحافظة على نسلها ولإقامة السباقات فيها، يذكر مخاطباً الملك «ولمثل هذا العمل منفعة كبيرة للبلاد التي هي مهد الخيل العربية»، ولحبه للخيل فقد بادر الملك عبدالعزيز بدعم هذه الجمعية، كما أرسل الخيل بناء على طلبه.. لا شك أن تسمية الفرس باسمها يتبن المكانة التي حظيت بها الأميرة نورة بنت عبدالرحمن وما تمتعن به من شهرة وتقدير وإعجاب عند هولاء الأجانب، التي قال عنها فيلبي «تعد السيدة الأولى في بلدها». وختاماً فإن الهدية هي سنة سنن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ومن أدب وأخلاق الملوك.