(1) مواطنو لندن يؤكّدون مرّة بعد أخرى، أنّ بلادهم أمّ الديمقراطيات والبرلمانات، أنّهم أقوى من فوبيا عرقيّة أو مذهبيّة، رغم مراهنات إرهاب الإسلام - السياسي المسلّح على استفزاز أوروبا عبر عملياته الإرهابيّة التي ينفّذها إلاّ أنّ شعوبها لا يدعون فرصة لإثبات تمسّكهم بوعيهم الإنساني التعدّدي، وإصرارهم على رفض العودة إلى ردّات العنف البدائيّة: عنفاً بعنف وأبرياء بأبرياء... انتخاب (صادق خان) عمدة للندن هو انتخابٌ «ما بعد ثقافيّ»، يؤكّدُ قوّة التعدّد والتصالح النفسي بين التشريعات وما يمثِّلها على الواقع، وكانت نتيجة الانتخاب ضربة للمراهنين على سقوط أوروبا في فوبيا العنف تحت وقائع العمليات الإرهابية، التي لا تخلو أجندتها من محاولات لإيقاظ العنصريّة الأوروبيّة على مستوى المؤسّسات السياسيّة، حتى يبدو الصراع: عنصريّة بمثلها، وتوحّشاً بأعنف منه. أوروبا ليست للأوروبيين عرقاً. أوروبا ليست مكاناً للمسيحيين. ذلك جزءٌ من التاريخ الميّت. أوروبا لكلّ إنسان موجود فيها؛ هذا ما أرادت لندن قوله عند انتخاب عمدة لها: أنّ المواطنة لا تلتفت إلى أوهام العرق والديانة. (2) الاتحاد غير الوحدة. الاتحاد اعتراف بالتعدّد والتنازل عن فرض ثقافة على ثقافات أخرى، والهدف منه تحسين علاقات دول متجاورة بما يعود بالنفع إلى شعوب الاتحاد؛ والوحدة تضمر إقصاءً يعارض الاختلاف، وتتضمّن استبداد ثقافة على ثقافات أخرى. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يجب أن يُفهم على غير معانيه المتعلّقة بسياسات ماليّة واقتصاديّة في المقام الأساس واختلافات طارئة بسبب ملف اللاجئين ومعالجته دون أوهام قوميّة وهواجس متطرّفة (أو التزامات إنسانيّة)، أمّا اعتبار الخروج (ردّة قوميّة) فذلك احتيالٌ، وقد ردّت عليه لندن بانتخابات عمدتها قبل التصويت على الخروج من الاتحاد، وردّت اسكتلندا وإيرلندا اللذين صوّتا لصالح البقاء: (أنّهما قد يذهبان إلى استفتاء الشعب بشأن الانفصال عن المملكة المتحدّة لأجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، وعلى هذا لا يمكن اختزال ما حدث على أنّه (ردّة قوميّة) فلم تكن بريطانيا منذ البدء لتلحق بكلّ قرارات الاتحاد الأوروبي، ولك في موقفهم من العملة الموحّدة اليورو وتأشيرة الشنغل دليلاً على ذلك. وبالتالي، لا يملك اليمين الأوروبي المتطرّف الذي يصوّر الحدث (الزلزال) بما يخدم أجندته القوميّة، التصوّرات نفسها التي كانت في حسابات أكثريّة ناخبي المملكة المتحدّة. (3) أين تكمن أوهام دعوة الوحدة العربية والخلافة الإسلاميّة؟ كما يتمّ التصدير لهما إمّا قوميّة عنصريّة أو دينيّة إقصائيّة؟ وكلاهما دعوتان لوهم واحد. كيف يمكن أن تفصل الدعوة للوحدة واعتبار دول الشرق الأوسط خريطة جغرافية ذات وحدة سياسية دون أن تنزع هذه الدعوة عن واقعها التاريخ: أنها لم تكن يوماً خارج الحاضن والموجد الديني لها. هل من وحدة عربية واقعياً وتاريخياً أم مجموعة بلاد متفرِّقة ومختلفة تمّ ضمها تحت دول برايات إسلاميّة تعاقبت على حكمها: المسلمون الأوائل، الأمويون، العباسيّون، العثمانيون. كيف تفصل دعوة الوحدة العربية عن دعوة الخلافة الإسلامية؟ كيف لم يلتف دعاة القومية العربية في مطلع القرن العشرين لهذا الوهم، أم هي عقدة تقليد المستعمر، الذي تورّط بخطأ سياسي كارثي حينما ربط الدولة المدنية الحديثة بالقومية، وقد انتهت التجربة- بكارثتين أودت بحياة الملايين تحت تأثير أوهام القومية؛ فكل فكرة قومية تحمل في قلبها محركها العنصري، كما نصت بذلك صراحة النازية في أفكارها وأعمالها. هذا ما حدث... وبينما جاءت التحرّر العربي من الاحتلال.. كانت المصادفة التاريخية أن التحرّر بحد ذاته جاء تأكيداً على فشل الدولة القومية الأوربية في مشروعها المدمر وآل حكم البلاد بعد كوارث الحربين إلى العلمانية السياسية، التي وضعت حدّاً وانتصرت تاريخياً على مفهوم دولة العرق ودولة العقيدة ودولة الغلبة، وصارت الغلبة بيد العموم. وعلى الرغم من هذا التزامن أخذ العرب يقلّدون مشروعاً أوروبياً (هو مشروع الدولة القومية) ولم يلتفتوا إلى أنّ هذا المشروع آخذ أوروبا إلى دمار دموي ليس له مثيل في التاريخ المكتوب والمعروف. كما أنّهم لم يتلفتوا إلى أنّ قوميتهم الموهومة ليس واقعاً، لا تاريخاً ولا حاضراً. (4) الوهم أن ترى العرب دولة واحدة، الوهم أن ترى المسلمين دولة واحدة؛ فتاريخ غلبة ثقافة على ثقافات أخرى قد انتهى، والتعدّد قانون الحاضر، وليس هناك مبرّرات مدنيّة ماديّة لهذه الدعوات الكارثيّة؛ وليس الوهم محصوراً بأنها دعوات لا تتحقّق ولا يمكن لها ذلك دون العنف والتدمير، بل يتعدّاها إلى خطر وجودها نفسه، إذ يتضمّن تحريضاً على العنف والعنصرية بطرق شتّى: قوميّة أو دينيّة، وإن كانت مغلّفة باعتدال وتعدّد. فالتطرّف قد يخرج من الغرب أو الشرق، ولكن في حالتين فإنّ غرور القوميّة أو غرور القوّة في فرض ثقافة على ثقافات لتوسيع النفوذ والملكيات أساس العنف في الاحتمالين. تبقى التشريعات الغربيّة تحاصر قدر الإمكان (الردّة القوميّة)، ويخشى على دول هذا الشرق، أنّها غير محصنة تشريعيّاً لحماية التعدّد الثقافي الذي يميّزها.