كانت الموسيقى الشّعرية من أكثر السّمات الفنّية الإيقاعيّة بروزًا في الشّعر العربي المعاصر، وأشدُّها ارتباطًا بمفهوم التّجديد، فقد كانت الموسيقى تنحصرُ عند القدامى في الوزنِ والقافيةِ والبحورِ الخليليةِ المتداولةِ لدى الشّعراء، فظهرتْ محاولةٌ جادة في سبيل هذا التغيير، ولم يكن هذا التغيير -في رأي بعض النقاد – جريئًا سطحيًا وإنما كان جوهريًا شاملا، وكان تشكيلا جديدًا للقصيدة العربية من حيثُ المبنى والمعنى. ومن هنا ظهرتْ محاولاتٌ جادةٌ عُرفت بالشّعر الحرّ، وكانت هذه المحاولات أكثر نجاحًا من سابقاتها الشعر المرسل وغيره، حيثُ حطّمت المدرسة الجديدة كلّ القيودِ العروضيّة المفروضة عليها، وانتقلت بها من الجمود إلى الحيويّة، ومن الثبات إلى الانطلاق، وقد آمن شعراء القصيدة المعاصرة بذلك، فالشّاعر العربي– بل الإنسان العربي- يقرُّ بأنَّ العلم كُلُّه قد تغيّر منذ عصر النّهضة، ومن ثمّ فقد طولب الشّاعر بأن ينهضَ بدورٍ فاعل وأن يتواءمَ مع هذا التغيير اتساقًا مع التّجربة الإنسانية. وتعدُّ نازك الملائكة من أهم المنظّرين للشّعر الحرّ، إن لم تكن أولهم، وكان تنظيرها من خلال كتابها قضايا الشّعر العربيّ المعاصر، ومن قبل مقدمة ديوانها شظايا ورماد الصّادر عام 1949م، وكانت في ذلك ترتكز على اعتبار الشعر الحديث ظاهرة عروضيّة كما تقول، وأن الشّعر الحديث هو انبثاق وولادة جديدة من الشّعر العربي القديم. انطلاقًا من الأسلوب الجديد في ترتيب التّفعيلات الخليلية الذي حرّر الشاعرَ من بعض القيود. فالشّعر الجديد يؤدي للتركيز بعيدًا عن الحشو الذي يضطره الشّاعر في الشّعر التناظري التقليدي. وكانت نازك الملائكة تنطلق من أمرين: أولهما معرفتها بالعروض العربي، وثانيهما : قراءتها للشعر الإنجليزي، غير أن هاتين المعرفة والقراءة لم تخرجا على الأصول العربية، لأن شعر التفعيلة على الرغم من اختلافه عن شعر الشطرين فإنهما يتماثلان في مزايا وعيوب، فهما لا يخرجان عن أصول عروضية معروفة، ولذلك أكدت نازك الملائكة أن شعرنا الجديد مستمد من عروض الخليل بن أحمد قائم على أساسه، غاية ما في الأمر أن حركة شعر التّفعيلة استعانت ببعض تفاصيل العروض القديم على إحداث تجديد؛ يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال. إنّ نازك الملائكة لا تنبذ شعر الشطرين ولا تريد أن تقضي على أوزان الخليل، وإنما ترمي إلى أن تبدع أسلوبا جديدا توقفه إلى جوار الأسلوب القديم، وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة. لقد أكّدت نازك الملائكة على أن الشّعر ظاهرة عروضية قبل كلّ شيء، بمعنى أنه ليس نفيًا لقصيدة الشّطرين، وإنما تجديد وتطوير لها. وكانت تنتخب من أوزان الخليل سبعةً، رأت فيها المجال الأوسع؛ لتخوض فيها تجربة الشّعر الحرّ غمار التجديد. فقد وضعت نازك الملائكة عددا من القوانين التي تضبط حركة التّجديد في الشّعر الحرّ، حيث أكدت على عدد التفعيلات في السطر الشعري و ترتيب الأشطر والقوافي وطريقة استعمال التدوير والزحاف والوتد، وتتبدى ملامح المحافظة عند نازك الملائكة في تأكيدها إحالة عروض شعر التفعيلة إلى الشعر العمودى، وكأنه فرع من عروض الخليل، إذ تتحدد جِدّته من خلال استبدال نظم الشطرين بنظام السطر الشعري و حرية مقيدة لعدد التفعيلات في السطر الشعري. وما عدا ذلك فإن الشاعر لا يخرج على القانون العروضي جاريًا على السّنن الشّعرية التي أطاعها الشّاعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا. إنّ أساس شعر التّفعيلة هو وحدة التّفعيلة عند نازك الملائكة، إضافة إلى حريّة مقيّدة في عدد التّفعيلات في السّطر الشّعري الواحد، وتضع نازك قواعد صارمة فهي تخرج عددا من البحور الشعرية لعدم صلاحيتها للشّعر الحر، وهي : الطويل، والمديد، والبسيط، و المنسرح[1]، فهي لا تصلح للشّعر الحر على الإطلاق، لأنها ذات تفعيلات منوعة لا تكرار فيها، وإنما يصح الشّعر الحر في بحورٍ تتكرّر تفعيلاتها كلها أو بعضها. كما ألزمت نازك الملائكة الشّاعر بضرورة المحافظة على قوانين الخليل في الضّرب، لأن اختلاف الضرب في قصيدة الشّطرين يعني تشكيلات مختلفة من البحر الشعري في القصيدة. هكذا كانت نظرت نازك الملائكة لموسيقى الشعر الحر نظرة عروضيّة، على الرغم من اقتناع نازك الملائكة بأن وراء الشعر الحرّ عوامل خارجة عن الرغبة في تجديد الوزن والتشكيل الموسيقي ، وهي عوامل اجتماعية ونفسية إلا أنها كانت تركز على فكرة أن الشّعر الحرّ ظاهرة عروضيّة قبل كلّ شيء. وهذا ما جعل عددًا من الشعراء – منهم السياب ويوسف الخال – يقولون: إن الشّعر الحرّ ليس ظاهرة عروضية وحسب بل هو بناء فني جديد يجسد موقفًا واقعيًا جاء ليحطم الميوعة الرومانسية والصرامة الكلاسيكية والشعر الخطابي. إن الشّعر الحرّ بدأ في الحقيقة مهتما بالتخلّص من الوزن والقافية الموجودة في الشّعر التناظري التقليدي، ولكن سرعان ما تحول ليكون تعبيرًا عن أفكار وطموحات جديدة متبنيًّا قضايا تمسُّ الإنسان العربي المعاصر مما احتاج معه الشّاعر العربي ليتجاوز هذا الشكل التقليدي بحثاً عن شكل آخر يناسبه ويجد فيه بغيته. إنّ الشّاعر العربي في العصر الحديث بدأ ينهل من ثقافات أوسع وأكثر حداثة، فقد استطاع أن يستوعب ما قدّمته الثقافة الغربية من شعر من أفكار جديدة تناسب تجربة الإنسان المعاصر. وتمثل القصيدة الحديثة منعطفا هامًا في التشكيل الشعري العربي، حيث أدرك الشّاعر المعاصر أنّ الإيقاع القديم بطريقته الملتزمة شكلا واحدًا لم يعد قادرا على استيعاب المفاهيم الجدية للشعر، فالقوالب الجاهزة والتراكيب النّمطية أصبحت عاجزة عن فهم طبيعة التجربة الشعورية في عصر شهد تحولات ومفارقات إنسانية كبيرة. لقد آمن الشاعر العربي بأنّ المضامين الجديدة التي يعيشها من حقها أن تفتش عن أشكال جديدة . لقد كان شعراء الخمسينيات من القرن الماضي على قناعة تامة بضرورة التغيير وعدم الوقوف عند الظاهرة العروضيّة فقط، بل تجاوز ذلك ليكون تعبيرا عن رؤيا وكشفا غامضا مترددا لا منطقيا، وأنّ الموسيقى لا تنبع فقط من تناغم أجزاء خارجية ومقاييس شكلية، بل تنبع من تناغم داخلي حركي من موسيقى داخلية تعتمد استثمار الطاقات الإيقاعية الداخلية للقصيدة. وهذا ما جعل الشعراء يخرجون عن الأصول المعيارية كثيرا بدليل تمردهم عليها، ومحاولتهم التجريب مهما كان نوعه، وحينما حاولت نازك الملائكة رد الشعراء عن محاولات التجريب تلك، وتحولت إلى خليلٍ جديد تفرض على الشعراء قيودها، أخذ الشاعر بالتمرد على قوانين البحور والزحافات، يقول بلند الحيدري : خرجنا إلى هذه التّجربة بحيث تتحول الموسيقى في كل قصيدة إلى موسيقى القصيدة الخاصة، لا إلى موسيقى البحر. ومن الخطأ أن نقول الآن: إن شعراء الحداثة مالوا إلى استخدام سبعة أو ستة بحور فقط، في الحقيقة البحر ألغي نهائيا، وهنا في هذه الحالة ملنا إلى استخدام موسيقى القصيدة الذاتية، أي أنّ لكل قصيدة موسيقاها الخاصة. *** [1] _ نظم عدد من الشعراء على هذه البحور منهم السياب يقول في إحدى قصائده على البسيط : نافورة من ظلال من أزاهير ومن عصافير جيكور، جيكور، يا حقلا من النور. 2- استعنت ببعض الكتب في كتابة المقال.