في صباح 24 أبريل 2013م عرفت في هذا الصباح المبكر أن الليل الطويل الذي لا ينجلي في معلقة امرئ القيس تشد نجومه أحيانا إلى الجبال بأمراس كتان، وبسلاسل من حديد أيضا. كانت ليلة طويلة جدا وباردة جدا أيضا، تلك الليلة التي قضيناها أمام عدة جبال متجاورة في حرة بني رشيد شمال المدينةالمنورةوجنوب غرب حائل.. ليلة ليلاء كما يقولون. كنت قد صعدت لكرافان السيارة للنوم، تاركًا الزملاء ومن يضايفونهم من البدو ومن قبيلة بني رشيد إحدى سلالات قبيلة «عبس» من غطفان، يواصلون سمرهم. حيث إن البرد اشتد وأوقدت النار، وأُعدت القهوة العربية والشاي وأُعدّ طعام العشاء لكنني لم أستطع أن أقاوم البرد والإرهاق وصعدت للنوم. لكن يبدو أن النوم المبكر والاستيقاظ المبكر يجعل المرء في حال قلق عند صحوه، إذ إنني استيقظت تقريبا في الثانية والنصف ليلا، ولم أنم بعد ذلك منتظرًا شروق الشمس التي غابت كثيرا وطال الليل بشكل مؤرق واستمر البرد حتى كتابة هذه الكلمات. كان يوم الثلاثاء يومًا خصبًا ومترعا بجمال الرحلة وروعتها. كنا قد بتنا ليلة الثلاثاء في أجنحة مفروشة تسمى :» سندس» في المدينةالمنورة (أو المنيرة - حسب الصحة اللغوية) بالقرب من المسجد النبوي الشريف. كنا قد نوينا جميعا أن نصلي الفجر بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن النية لا تتحقق إلا بفعلها، أو بالعمل. لهذا لم يستيقظ أحد للذهاب للصلاة ، ربما من شدة الإرهاق، سواي والدكتور عيد اليحيى الذي صلى الفجر بالسكن الذي نقيم فيه ثم واصل نومه تارة أخرى، وفعلت مثله، لكنني قمت بشحن ما معي من كاميرا وموبايل وانشغلت بنقل الصور الجديدة من الكاميرا إلى جهاز اللاب توب. شربت عصيرا، وأخذت أكتب بعض الكلمات، وأخرجت من حقيبة الكتب التي أحملها معي كتابا بعنوان:» النسيب في الشعر العربي» لياروسلاف استيكيتفتش، من ترجمة الدكتور حسن البنا عز الدين لقراءة بعض الصفحات منه، ولكنني لم أقرأ شيئا. فقد كنت قرأت عدة صفحات منه في الليلة السابقة. كانت زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم تخايلني، فأنا لم أزره إلا عابرا منذ أكثر من عشر سنوات، حيث قرأت الفاتحة أمام قبره - ص - وكان يقف أمام ضريحه الشريف شيخ وعسكري، ثم صليت ركعتين في الروضة الشريفة لكنني لم أتمتع كثيرا بقضاء وقت كاف في الحضور أمام حضرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه. هذه المرة أريد الذهاب إلى المسجد وقضاء بعض الوقت، لكن يبدو أن المخايلة الروحية لن تتحقق لأن الوقت مضغوط جدا وأمامنا رحلة طويلة للذهاب إلى مكان سباق :» داحس والغبراء» على بعد 160 كم شمال المدينةالمنورة. أيقظت د. عيد اليحيى لأعرف هل يمكنني الذهاب وحيدا للمسجد النبوي الشريف، أم نذهب معا. استيقظ الدكتور بسرعة وكان يشعر بما أشعر به من ضرورة زيارة مسجد الرسول الكريم. فقلت له: نزور المسجد وندع الزملاء يستيقظون على راحتهم قبل الظهر، لأنهم مرهقون جدا فيما يبدو من هذه الرحلة الطويلة المستمرة. فوافق على هذا الرأي وبسرعة ارتدى جلبابه ، ثم قال لي : سأنزل لإيقاف تاكسي. توضأت من جديد، وبعد دقائق أدركته بالشارع وأوقفنا سيارة ملاكي سوداء صغيرة، أوصلتنا خلال خمس دقائق إلى مسجد الرسول - ص - نزلنا من السيارة وأمامنا المسجد، وأمامنا على الجانب الأيمن عربات وكراكات وبلدوزورات تعمل في توسعة المسجد النبوي الشريف، انتحينا يسارًا إلى جانب سور مقابر:» البقيع» والباعة الذين يفترشون رصيف السور، وإلى وراء السور أشار لي د. عيد إلى أن هذه المقابر بها قبور كبار الصحابة (رضي الله عنهم) وفاطمة ابنة الرسول - ص - وبعض الشهداء من المسلمين الأوائل، وهناك قبور حديثة لمن توفوا في عصرنا الراهن ، قرأنا الفاتحة ، ثم واصلنا السير إلى مسجد الرسول - ص - الذي توسعت أطرافه بشكل مبهر ورائع ، من الأعمدة الرخامية الجديدة، والساحات الرخامية الواسعة، وأشكال الطرز المعمارية الجديدة التي توائم جلال المكان. في طريقنا لدخول المسجد النبوي الشريف لنصلي ركعتين في روضته الشريفة كانت وفود المسلمين تتهادى في باحة المسجد الرخامية الواسعة من مختلف الجنسيات خاصة من دول قارة آسيا، من جنوب شرق آسيا، ومن إيرانوتركيا. إنه لمن المفرح أن يصل نور الإسلام لمختلف الجنسيات، وأن ينتشر في العالم بمثل هذه الكثافة، لكن هذا الانتشار لم ينتج تقدمه الحضاري الكبير حتى الآن. كانت أيضا هناك وفود نسائية من تركياوإيران على الأغلب، كن يقفن كثيرا ويبكي بعضهن أمام سور مقابر البقيع، وفي باحة المسجد الواسعة. التطويرات تتم بأشكال رائعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والألوان والزخارف والنقوش تبدو زاهية جدا. دخلنا المسجد الذي كان مزدحما عند الروضة والمنبر وقبر الرسول الكريم، وسرنا مع السائرين، وقرأنا الفاتحة على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمام القبر أجهشت فجأة بالبكاء، كأن شيئا نورانيا من الله مس الروح.. لا أدري. ثم خرجنا ولم نصلّ من شدة الزحام. ثم درنا مرة أخرى ودخلنا من باب «السلام» رقم (1) وجد د. عيد مكانا ليصلي، وعثرت على مكان قمت فيه بالصلاة ركعتين في حضرة الحبيب المصطفى، وغلبني البكاء أيضا، وقمت بالدعاء لوالديّ وإخوتي وأسرتي وللمسلمين جميعا والدعاء لنفسي. بعد الصلاة والدعاء رأيت عددا من الحضور يقومون بالتصوير فأخرجت الكاميرا التي لا تفارقني وقمت بتصوير فيديو للمنبر وللجموع المتحركة ولسقف المسجد وأعمدته مدة دقيقتين، ثم أغلقت الكاميرا وقرأت الفاتحة أكثر من مرة أمام قبر الرسول الكريم. ثم خرجنا أنا والدكتور عيد اليحيى ووقفنا عند سور البقيع حيث مقابر الصحابة والمسلمين الأوائل، وكان هناك عدد كبير من الواقفين خاصة من السيدات وكبار السن. المقابر مجرد مقابر ترابية ، عليها بعض الحجارة كشواهد، هكذا فقط، لا أضرحة ، لا مزارات، لا نباتات ، لا أشجار، لا لوحات رخامية مكتوب عليها أسماء هؤلاء الصحابة (رضي الله عنهم) الذين أسهموا في نشر الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى بالمدينةالمنورة، هؤلاء الذين رضي الله عنهم في دنياهم وآخرتهم، وبشر بعضهم بالجنة. بعد أن رحلوا لم يكرموا، مجرد قبور ترابية عليها بعض الحجارة، لا نعرف قبر عثمان بن عفان من خالد بن الوليد من عبيدة بن الجراح من عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم -.. إلخ هذه الأسماء الكبرى في مسيرة ظهور الإسلام وانتشاره. هل كان ينبغي - على الأقل - أن توضع لوحات بأسمائهم حتى على سور البقيع، هنا يرقد هذا الصحابي، أو هذا القائد حتى من وجهة تاريخية ؟! إن الناس لن تتعلق بالأضرحة تماما، لكن على الأقل تعرف من يرقد في هذا القبر أو ذاك. لم تعجبني مقابر البقيع أبدا، ولم يعجبني عدم تكريم هؤلاء الصحابة والمسلمين الأوائل،. إن دولا أخرى تصنع مزارات كبيرة لشخصيات أقل منهم ربما في العالم الإسلامي وغير العالم الإسلامي.. فلماذا تأتي قبور الصحابة بهذه الصورة المهينة البائسة، من كرمهم الله في الدنيا ورضي عنهم وبشرهم بالجنة لابد أن يكرموا في قبورهم بعد رحيلهم. انصرفنا إلى مبنى الأجنحة المفروشة (سندس) كان الزملاء قد استعدوا للرحيل والذهاب إلى ميدان سباق: (داحس والغبراء) حيث اتصل بهم د. عيد قبل وصولنا وطلب منهم الاستعداد للمغادرة. ركبنا السيارتين، وغادرنا باتجاه موقع سباق داحس والغبراء ، وكان بعض الرجال من قبيلة (الرشايدة) من سلالة (عبس) في انتظارنا بفرسين حيث سيقوم فارسان بتمثيل مشهد سباق الفرسين: داحس والغبراء، حيث نقوم بتصويره.