مهما كتبت من كلمات بحق رجل سيبقى فراقه جرحاً نازفاً ليس بنفسي فقط بل في نفوس كل من فقدوه فستبقى تلك الكلمات شحيحة. لأنها لم تعد بتلك المكانة التي تربع عليها فقيدنا الغالي الذي رحل عن هذه الدنيا في صبيحة الأربعاء 1437/6/7ه تاركاً إرثاً عظيماً من الأخلاق والتجارب. هنا تتعطل لغة الكلام فقد أغرقتها العبرات والدموع التي ستظل تنزف مهما مرت السنون والأعوام، كيف لا وهو من رباني في صغري وأنفق علي الغالي والنفيس ونهلت من مدرسته، إنه أبي الغالي وعميد أسرة الحربش الشيخ سليمان بن عبدالله الحربش -رحمه الله- وجعل الجنة مثواه وجعل قبره روضة من رياض الجنة. و لا أريد أن أزيد عما كتبه العم الدكتور جاسر الحربش عن الفقيد في هذه الجريدة المرموقة ولكنها خواطر أبت إلا أن تظهر لتعبر عن عمق الجرح الذي أحدثه ذلك الرحيل المر. عندما أتحدث عن والدي فإني أتحدث عن رمز كان هو المثل الأعلى لنا جميعاً فقد علمنا أن الطموح ليس لديه حدود مهما تكالبت الظروف والصعاب فقد توفي والده وهو لم يبلغ العشر سنوات وذلك في ظروف معيشية صعبة ولم يكن ذلك معيقاً لطموح وهمة سليمان عبدالله الحربش فقد عمل في عدد من شركات المقاولات براتب زهيد لتأمين لقمة العيش آنذاك، ولما كانت إحدى تلك الشركات رائدة في مشاريع تنفيذ الطرق بالمملكة فإن الأخلاق الرفيعة التي كان يتمتع بها الوالد رحمه الله متمثلة بالإخلاص والوفاء هي ما حدا برئيس تلك الشركة إلى التمسك به لفترات طويلة كواحد من أمهر الموظفين لديها والتعامل معه بطريقة متميزة، وبعد سنوات من الخبرة الميدانية عاد -رحمه الله- إلى مقاعد الدراسة ليلتحق في المعهد العلمي بالرياض ومن ثم تم التحاقه بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ودراسته على كبار العلماء في تلك الجامعة التي كان يرأسها سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- لينال بذلك درجة الليسانس في الشريعة الإسلامية عام 1388 ويتم ترشيحه لتولي القضاء ولكنه اعتذر بشدة وآثر التدريس فقد تعين معلماً للشريعة في عفيف ومن ثم معلما في البكيرية لفترة قصيرة لم تتجاوز الشهر ومن ثم معلماً في متوسطة الرس لينتقل بعد ذلك معلماً في ثانوية الرس إلى أن تم تعيينه عام 1396 وكيلاً لثانوية الرس واستمر في هذا المنصب إلى أن تقاعد عام 1415ه، هذا عرض سريع لحياة والدي الغالي التي لم تكن مفروشة بالورود بل كانت محفوفة بقساوة الظروف إضافة إلى الأزمات الصحية التي مرت به خلال حياته ولكنه مع تلك الظروف أثبت لنا أن من يبحث عن هدف فسيصل إليه مهما كان ذلك الطريق مليئا بالأشواك والمخاطر وقد برهن ذلك بعزيمته العالية التي لم تضعف يوما من الأيام بل ظلت ديدنه حتى في أيامه الأخيرة فلم يستطع المرض أن يهز تلك العزيمة التي اقترنت به طوال حياته. أبي الغالي... لقد رحلت عن هذه الدنيا الفانية بجسدك ولكنك باق معنا، ستبقى تلك الدروس التي علمتنا فيها كيف نخوض تلك الحياة بكل احترافية واقتدار نبراسا نحتذي به بل ولن ننسى توجيهاتك التي طالما نهلنا منها مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين. إنني وأنا أسرد جزءاً يسيراً من مآثرك أعدك أننا سنسير على دربك ومنهاجك الذي علمتنا وجعلتنا نفتخر بأننا أحد تلاميذ مدرسة سليمان الحربش. وختاماً أرسل عزائي لكل من فجع بالفقيد الغالي وأخص بذلك والدتي الغالية وأشقائي وشقيقاتي وكافة الأسرة كما أخص أصدقاءه و زملاءه وتلامذته الذين كانوا على تواصل مستمر معه خلال حياته حتى في أيامه الأخيرة. رحم الله والدي وجعل الجنة مثواه وأبدله داراً خيراً من داره وجعل ما أصابه تكفيراً لذنوبه وجمعنا به ومن أحبه في جنات النعيم مع النبيين والشهداء والصالحين.