خلال السنوات الماضية كان تخصص القانون يعاني من شح في الكوادر الوطنية، ولكي يتم الاعتراف بهذه النتيجة كان لا بد من التقبل على مضض حلية القانون وجوازه بعد أن كان محرماً إن لم يبلغ لدى البعض حد التكفير، صدر حينها قرار بتوجيه الجامعات التي تشتمل على كليات الشريعة اعتماد برامج ماجستير الأنظمة (القانون)، عندما يكون خزان الماء شبه فارغ، فأنت حتماً لا تحضر ست صهاريج دفعة واحدة لملئ الخزان، اجتهدت عمادات كليات الشريعة والدراسات العليا بوضع برامج للماجستير الجديد، ارتكنت اللجان الواضعة للمناهج التي كان من ضمن أساتذتها من سبق أن حرم دراسة القانون وأيسرهم على سبيل كراهة التحريم على ركيزتين؛ الأولى غلبة الطابع الشرعي لتطبعها بشخصية المهكيل لها وإن كانت التسميات قانونية، والثانية استقطاب تجربة المعهد العالي للقضاء والتي بدورها تهيمن العلوم الشرعية وتطغى على برنامجيه. كان دافعهم في قبول تلك المهمة رغم ما تعتصر نفوسهم من كراهة قد تبلغ حد التحريم هو كمن استجد عليه أمرٌ نافذ فأدركه «بيدي لا بيد عمرو». أقول لغير المتخصصين عندما نتحدث عن الشريعة والفرق بينها وبين سائر الدراسات الإسلامية الأخرى فإن لب الشريعة في استيعاب علمي أصول الفقه وعلم الفقه بعمق ودراية وتحليل جدلي وما يتفرع عنها من علوم كالقواعد والتخريج الفقهيين، وكذا حين نتحدث عن القانون فإن لب القانون في دراسة النظريات القانونية الأساسية وهي نظريتي القانون والحق ونظرية الالتزامات والعقود التي تمثل عامود القانون المدني، وعلمي الجريمة والعقاب في الشق الجنائي من دراسة القانون. وأي نقص في منهجية ما سبق يجعل منها ذات طبيعة دعوية وعظية في التخصصات الإسلامية ومساعدة مساندة في القانون وفي كلا الحالتين، فإن خريجه لن يكون فقيهاً لديه ملكة استنباطية أو تخريجية للأحكام أو قانونياً لديه ملكة حقوقية في فهم القضايا أو تقديم الاستشارات القانونية ما لم يتشبع بأسس تلك التخصصات كما أسلفت. بالمقابل نجد كليات متخصصة في القانون اجتهدت منذ سنوات كأحد الرافدين في تخريج قانونيين بدرجة بكلوريس، ولن أخفيكم أن نظام القضاء لدينا كان محقاً حين اشترط للعاملين في سلك القضاء حصول درجة الشريعة كشرط أساسي لممارسة القضاء، ولم يعتبر حامل بكلوريس الأنظمة (القانون) مؤهلاً لممارسة القضاء، فكيف يمكن لمن يتولى الأقضية أن يكون مجرد زائرٍ لساعات محدودة على ثقافة المجتمع الأصيلة، وهو كذلك على عدم الدراية الكافية للعرف الاجتماعي الأصيل ألا وهي ثقافة وهيمنة الشريعة بفنونها والشعور بالانتماء لرافد التشريع الإسلامي والاعتزاز به. إن قناعتي لأحقية ذلك كان لسببين ابينهما لكي لا يكون ذريعة لحنق البعض علي! فيكفيني عذراً أنني لم أمارس القضاء ولم أكن لأتقدم لممارستها أصلاً لعلمى أنه قد سطر أمام من تقدم إليها «إنا لا نعطيها لسائلها» استناداً للهدي النبوي الشريف، ولكن حين الغوص كان الماثل هو «ولكنا نعطيها لمن سألناها له!!!». عوداً على الأسباب، فالسبب الأول أن القانون ينبع عن ثقافة وأسس كل مجتمع، وهو بذلك يفارق الطب والهندسة وسائر العلوم البشرية التطبيقية لأنه ذو طابع اجتماعي محض، يختلف باختلاف الجغرافية والدين والعرف، ومجتمعنا يقوم على الشريعة الإسلامية كمصدر لتشريع والحكم والحياة بأكمله، ولذا فليس لدينا حتى الآن قانون مدنى، والمطبق لدى محاكمنا هي النصوص الشرعية المستنبطة من مصادرها النصية استهداءً بكتب الفقهاء ومدونات السابقين، وإلى أن يتم صياغة قانون مدني وعلى فرض أن تم فإنه سيكون شبيهاً من ناحية الأصالة والإسناد «بمجلة الأحكام العدلية» القانون المدني العثماني المستنبط من الشريعة الإسلامية وفق المذهب الحنفي، إلا أن كليات الأنظمة لدينا عمدت إلى تدريس القانون دون أن يكون لدى الطالب خلفية شرعية إلا في حدود ضيقة يتم منحها للدارس ضمن ساعات دراسية محدودة، وبذلك فإن الذهنية العامة لخريجيها تضل في حال اضطراب مع الحالة السائدة للمجتمع. إلى هنا أود طرح مقترح فيما يتعلق بكليات الشريعة لدينا، كان الأولى بدلاً من فتح برامج ماجستير أنظمة (قانون) تحت مظلة كليات الشريعة وتكليف الشرعيين بوضع مناهجها والإشراف عليها، وهو كمن أراد تشييد مبنى فكلف مهندساً ميكانيكياً بدلاً من معماري فكليهما في نظره مهندس، كان الأولى الاستفادة من تجارب الآخرين كتجربة الأزهر مثلاً بالنسبة لدرجة الجامعية أو تجربة جامعة القاهرة لدرجة الماجستير. كان الأولى لدرجة الجامعية في كليات الشريعة وضع مسارات يتم الاختيار من بينها بعد السنة الرابعة، مسار شرعي ويتخرج منه الطالب فور اجتياز المتطلبات الشرعية في سنواتها الأربع، أو المسار التربوي وحينها يبقى لسنة خامسة ليتحصل على المواد التربوية التي تؤهله للمنافسة على الوظائف التعليمية، وهذا الدبلوم التربوي الحالي نفسه الذي تمنحه بعض الجامعات ليتم دمجه ضمن الدرجة الجامعية من غير أن يختل النصاب الشرعي في سنواته الأربع بمواد تربوية محشوة على حساب الشرعية، كما عمدت بعض كليات الشريعة إلى استحداثها لبلوغ النصاب المتطلب لدى الخدمة المدنية للوظائف التعليمية، أما المسار الثالث فيتمثل في الشريعة والقانون، وهذا أسوة بتجربة الأزهر كما أسلفت، يتم فيها منح الطالب مواد قانونية بحتة بعد دراسة المواد الشرعية ومجموع سنواتها خمس. ومن أراد بعد ذلك الحصول على درجة الماجستير الوظيفي فعليه البقاء لسنة واحدة في برنامج دبلوم عال يتحصل فيها على مواد قانونية بحتة، ثم لراغب الحصول على ماجستير أكاديمي الحصول على دبلوم ثان لسنة أخرى يشتمل على مواد قانونية ورسالة بحثية، والدبلومان العاليان هما في الواقع فكرة مستنسخة من المعمول به في جامعة القاهرة التي أخذت بدورها هذا النظام من النظام التعليمي في فرنسا. تنبيه: عندما أكرر كلمة بحتة فإني اتعمد ذلك للإشارة إلى ضرورة عدم المزج بين الشريعة والقانون كما هو حاصل لدينا، يقول المثل أعطى الخبز لخبازه، عندما تريد أن تمزج بين الشريعة والقانون في شخص رجل القضاء ورجل القانون ليستفيد من كلا الحقلين، فأفضل طريقة هي الفصل بينهما في مرحلة التلقي بفصل المناهج ومنح جرعة كافية من العلوم القانونية النقية من أربابها كما سبق أن منح جرعة وافية من العلوم الشرعية من مشايخها لا المزج بينهما في هذه المرحلة ليقوم العقل البشري المزج بينهما لاحقاً في مرحلة الأداء، لأن المزج في مرحلة التلقي سيؤدي إلى عدم وضوح وتغليب المثل الدينية، بينما إذا ما ألزم الدارس دراسة مراجع قانونية بحتة من تأليف قانونيين لا ينتمون للمدرسة الشرعية، فإنه سيكتسب رؤى جديدة من زاوية لم يعتد النظر من خلالها ليصبح لديه ملكة جدلية ومهارات تحليلية ورؤى تحكيمية تضاف وتبنى على الأسس الشرعية التي لديه، وأعتقد أننا تجاوزنا مرحلة هدم المخاوف من الخوض في علم تحوم حوله الشبهات أو أشتهر بكراهته وما يعتمل من غضاضة في الصدر. علماً أن عملية الفصل لا يمكن أن تتم إلا بعد أن يتم فصل الجهات المشرفة والمانحة للدرجة العلمية في القانون، لذا اقترحت الدبلومين العاليين وضرورة أن يكون القائمون عليهما من أساتذة القانون في قسم مستقل عن أقسام الشريعة.