تزخر المملكة بطيف واسع من موارد التراث الثقافي بنوعيها المادي وغير المادي (المأثورات الشعبية)، مما يجعلها مأوى للتراث الثقافي بامتياز. ولعل المراقب يلحظ أن الدولة عبر مؤسساتها المعنية وخاصة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني قد دخلت مرحلة جديدة في الاهتمام بالتراث؛ والملمح الرئيس لهذه المرحلة هو إعادة الإحياء والتوظيف والتشغيل لموارد التراث والسعي لإدماجها في دورة الاقتصاد الوطني. إن البعد الاقتصادي يندمج ويتماهى مع التراث الثقافي في كل مراحله؛ فكل مرحلة في دورة حياة المورد التراثي تحتاج نوع من التدخل الاقتصادي ومنهج للتحليل يتوافق مع طبيعتها وخصائصها، ففي مرحلة اكتشاف التراث والحفاظ عليه وإدارته تُستخدم مناهج متعددة منها: مناهج اقتصاديات البيئة، والاقتصاد الحضري بما في ذلك آليات التكلفة - العائد وتقييم الأثر، وفي مرحلة إدماج المورد وببيئته في برامج التنمية: يلجأ لنظريات اقتصاديات التنمية ومدارس التخطيط الإستراتيجي، أما عند التفكير في توظيف المورد ببرامج السياحة التراثية فلا بد من: الاستفادة من منهج المضاعف والتحقق من جدوى المشروع التراثي. إذن فالمفهوم يمتد مرافقاً المورد في بعديه الكلي والجزئي، ولكل مرحلة منذ الاكتشاف والحفاظ والإدارة وحتى توظيفه كمقصد سياحي، فهو مفهوم عابر لعدد من القطاعات والمراحل الزمنية ومجالات العمل Cross-cutting theme. بالرغم من أن منهج اقتصاديات البيئة يعمل على تخفيض تقديرات قيمة المنطقة التراثية إلاّ أن قيمتها ستزيد حتى مع غياب حركة السياح وذلك لتشييد بنية أساسية جديدة، التي يوفرها المشروع المعين، هذا فضلاً عن أن تحويلات المشروع للسكان المحليين تؤدي لتحسين جودة المكان وبالتالي زيادة قيمته وجعله مكاناً مميزاً للعيش والعمل. ومن ناحية أخرى فإن منهج الاقتصاد الحضري يعتمد استخدام الجدوى الاقتصادية للمشروع. وحيث إن القيم أحكام عقلية انفعالية توجهنا نحو رغباتنا واتجاهاتنا ومنها التحكم في اقتصادنا، فقيم موارد التراث من القضايا المحورية ونقطة الارتكاز لفهم وإدارة البعد الاقتصادي للتراث؛ وبما أن القيم هي أحكام ونعني بالقيم: الأشياء التي يرغب السائح الاستفادة منها وهو يزور الموقع التراثي. وقد اتفقت الدراسات على أن القيمة الثقافية لموقع أو مبنى تراثي تضم واحدة أو أكثر مما يلي: 1 - القيمة الجمالية: فالجمال هو كل ما يبعث في النفس سروراً وإحساساً بالانتظام والتناغم، فالجمال يرتبط عند الإنسان بالمشاعر والأحاسيس الوجدانية، ويمكن للموقع أن يقدم رؤية جمالية من خلال الشكل أو تناسق الألوان وغيرها، ومن المهم أن تتضمن القيمة الجمالية علاقة الموقع بالبيئة التي تضمه. 2 - القيمة الرمزية: يمكن للموقع أن يرسل معاني ومعلومات تفيد في تعزيز المجتمع لهويته وشخصيته الثقافية، وتبرز أهمية هذه القيمة في الدور التعليمي للموقع. 3 - القيمة الروحية: تعكس هذه القيمة وتساهم في الإحساس بالهوية سواءً للمجتمع المحلي الذي يعيش في الموقع أو بجواره، كما تربط هذه القيمة الموقع بالعالم (نموذج الأماكن المقدسة). 4 - القيمة الاجتماعية: تبرز القيمة دور الموقع في الاستقرار الاجتماعي وتماسك بنية المجتمع وترابط مكوناته. وهناك قيم أخرى، مثل: القيمة التاريخية، والقيمة العلمية، وقيمة الأصالة التي تعبر عن تفرد وأصالة الموقع. لقد ارتبط مفهوم الحفاظ على التراث تاريخياً باتجاهات المحافظة على المخزون التراثي ودعم وتنمية المجتمعات المحلية، وتمخض عن ذلك مفهوم الحفاظ المتكامل، الذي يهدف لحماية المناطق التراثية وتمكين المجتمعات المحلية. وقد لاحظ بعض الكتاب علاقة وثيقة ربطت تطور مفاهيم الحفاظ وحركات البيئة الأمر الذي قاد لمركزية دور المجتمع المحلي في إدارة التراث والمحافظة عليه، بل إن الاهتمام بالمكون الثقافي في عمليات التنمية صار محوراً أساسياً تتأسس عليه دراسات إنشاء المشروعات التنموية وبرامج التحديث، ويعدّ المسح الثقافي من المطلوبات الضرورية التي تتم قبل إقرار المشروع التنموي وقد فصل ذلك جيداً بارشيل وآخرون في كتابهم عن تقييم تأثيرات التنمية. وللتأكيد على أن الإنفاق على برامج المحافظة ليست عملاً دونما عائد فقد خلصت بعض الدراسات إلى أن الحفاظ على الممتلكات التراثية تعدّ استثماراً مميزاً وأن المنافع التي تترتب عليها تفوق بكثير تكاليف الحفاظ. واستخدم الباحث للتدليل على فرضيته ثلاثة مقاييس هي: قيمة الراحة في السكن وقيمة الترفيه والقيمة الموروثة، ولقياس هذه القيم فقد استغل طريقة تسعير التمتع لقيمة الراحة، وطريقة التقييم المشروط لقياس قيمة الترفيه والقيمة الموروثة، ولعل المراقب لتجربة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني يلحظ القناعة الراسخة بأن الإنفاق على التراث هو استثمار إستراتيجي يستوعب قيم موارد التراث ويضعها في قاطرة الاقتصاد الوطني مع ضمان مشاركة المجتمع المحلي. وفي هذا السياق فقد أشارت دراسات إلى أن قيمة التراث الثقافي في منطقة ما يمكن قياسها عبر رصد عدد من التأثيرات وهي: - نظام الإنتاج المحلي (الاستثمارات، الاستهلاك والطلب على الانتاج). - السوق الإقليمي للعمالة (بما في ذلك الوظائف الجديدة والمشاركة في قوة العمل). - السوق المحلي للإسكان (المبيعات والإيجارات). - البنيات الأساسية للنقل والاتصالات (بما في ذلك حرية الحركة وسهولة الوصول). - الخدمات العامة (الرعاية الصحية، التعليم والأبحاث). - النظام المالي والاقتصادي (الحوافز، الضرائب والتوجهات التوزيعية). - التأثيرات على البيئة المادية (التلوث واستخدامات الطاقة). - السياق الثقافي (الفنون الأدائية ومشاركة المواطنين في الظواهر والفعاليات الثقافية). إن فهم السياق التاريخي الذي نشأت فيه حركة المحافظة على التراث ومرجعيتها الفكرية، ومدى ارتباطها بحركات المحافظة على البيئة، تجعل الدارس يستوعب سبب استخدام مناهج اقتصاديات البيئة في التعاطي مع التراث وعدم التعامل مع برامج المحافظة كمطلب معماري فقط، بل يتجاوز ذلك ليصبح منهجاً للتخطيط وللرؤية الاستشرافية لموارد التراث. إن البعد الاقتصادي في عمليات الحفاظ يضمن زيادة الفوائد والعوائد من الموارد التراثية سواءً من المنظور الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو البيئي على حد سواء؛ ومن ثم فإن الوعي بالمبادئ الاقتصادية يضمن مستويات من الكفاءة لبرامج الحفاظ داخل المواقع التراثية، كما يعمل على تشجيع تنفيذ تلك البرامج. وتبرز أهمية اقتصاديات الحفاظ في تحليل القيم الفعلية التي تتضمنها مواقع التراث الثقافي والمساهمة في عمليات الاختيار والتقييم والمفاضلة، وذلك بالرغم من أن تكلفة الحفاظ على المواقع التراثية في بعض الأحيان عالية مما يدفع بعض الحكومات للتعامل مع المباني التراثية ككماليات لا يقدر على تكلفتها، الأمر الذي يقود إلى هدم المباني التاريخية لصالح المباني الجديدة؛ سعياً لتحقيق مزيد من المنافع الاقتصادية. وتعدّ الأصول والموارد التراثية مكونات أساسية في منظومة الموارد الاقتصادية لكل مجتمع، فهي كالمياه والأرض والمعادن وغيرها من الموارد التي تبذل الدول فيها جهود جبارة لاستغلالها. ومنذ مطلع السبعينات بدأت الأممالمتحدة والبنك الدولي وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي ترتيبات الاستثمار في المحافظة على التراث واتسع المفهوم في الثمانينات ليبرز مصطلح صناعة التراث. وقد تطور اهتمام المنظمات والدول بضرورة إدماج إستراتيجيات الحفظ والحماية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ وبرز ذلك جلياً في قرارات الدورة 35 للمؤتمر العام لليونسكو 2011م، والذي أكد على ضرورة تكامل التراث الحضري وإستراتيجيات الحفاظ مع الأهداف الكبرى للتنمية المستدامة. ينظر إلى العلاقة بين التنمية والتراث في مستويين: 1 - مستوى دراسة شكل وحجم التغيرات التي تطرأ على الموقع التراثي جراء المشروع التنموي. 2 - مستوى تحليل شكل واتجاه العلاقة عند تأسيس المشروع على قيمة الموقع التراثي. لا بد من التأكيد هنا أن لهوية المجتمع المحلي علاقة وثيقة بما فيها من منشآت، أو مناطق تاريخية ومؤسسات ثقافية، وتطالب تشريعات بعض الدول بضرورة اسقاط خصائص الموقع المحدد وقيمه على الخرائط وتوثيقها، بل ووضع قيود محددة للمشروع التنموي، بما في ذلك الإجراءات التنظيمية المرافقة، للمحافظة على الخصائص التاريخية والتراثية، ويعني ذلك أن على المخطط التنموي الاطمئنان على التدابير التي تضمن بقاء الموقع بخصائصه الفريدة وحمايته. إن تعظيم العائد الاقتصادي للتراث الثقافي لا يقتصر فقط على توظيفه في برامج السياحة التراثية، مع أهميتها، ولكنه ينداح ليشمل التخطيط الحضري والتوسع العمراني وضمان أن يكون التراث حاضرا في مشروعات التنمية وأن يتم استدعاؤه، خاصة التراث الشفاهي، لتعزيز القيم الإيجابية الداعمة لحركة التنمية والتحديث. وتؤكد المفاهيم التي استعرضناها آنفاً أن إستراتيجية المملكة في العناية بالتراث الثقافي تسعى لبلورة رؤية وطنية متفردة تستوعب التجارب العالمية وقصص النجاح، الأمر الذي ينبئ بصعود مقصد مميز للتراث الثقافي عالمياً. د. علي محمد عثمان العراقي - كلية السياحة والآثار - جامعة الملك سعود