أشرت في مقال سابق إلى حدوث انخفاض حاد في السيولة مقاسه بالعرض الضيق للنقود M1 خلال الستة الأشهر الأخيرة من عام 2015، حيث انخفض عرض النقود بنسبة بلغت 8.9%، أي بمعدل انخفاض سنوي يصل إلى 17.8%، وفي هذا المقال سأجيب على بعض التساؤلات المهمة حول سبب ذلك وتأثيراته ومتى وكيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية؟. 1 - ما سبب انخفاض السيولة؟ تثبيت سعر صرف الريال أمام الدولار وفي ظل العجز الكبير في ميزان المدفوعات بسبب انخفاض عائدات النفط يجعل مؤسسة النقد مضطرة لأن تواجه فائض الطلب على العملة الأجنبية بشراء الريال السعودي في سوق النقد الأجنبي والذي يعني مباشرة تقليص عرض النقود في الاقتصاد. فالسلطة النقدية لا تستطيع أن تتحكم بعرض النقود وتثبت سعر الصرف في آن واحد إن كان هناك أيضاً حرية في حركة رأس المال.. فعندما تختار تثبيت سعر الصرف، كما هو الحال بالنسبة للريال، فإن عرض النقود يصبح من غير الممكن التحكم به، فيرتفع أكثر مما يجب عندما يكون هناك تدفق كبير للنقد الأجنبي نتيجة ارتفاع إيرادات النفط مثلاً، كما ينخفض بشدة عندما يحدث العكس كما هو الوضع حالياً. وتتم معالجة انخفاض عرض النقود في العادة من خلال قيام البنك المركزي بتعقيم التأثير السلبي لتدخله في سوق النقد الأجنبي على السيولة المحلية من خلال شراء السندات الحكومية، وبالتالي ضخ المزيد من السيولة، إلا أن هذا خيار غير متاح حالياً أمام مؤسسة النقد في ظل الحاجة إلى إصدار مزيد من السندات لتمويل عجز الميزانية، لا أن يتم شراء ما سبق إصداره منها. 2 - ما أبرز انعكاسات ذلك على الاقتصاد؟ استمرار تقلص السيولة أو عرض النقود له انعكاسات عديدة على الاقتصاد أبرزها التالية: أ - إنه وفي ظل تقلص الودائع البنكية فإن إجراءات مثل تخفيض الاحتياطي القانوني الذي اتخذته مؤسسة النقد أخيراً لا يمكن أن يؤثر على عرض النقود.. فمع تقلص الودائع تجد البنوك أن نسبة إقراضها إلى ودائعها ترتفع بشكل مستمر بصورة تجبرها على الاقتراض من البنك المركزي لا أن تزيد من حجم الائتمان المصرفي. ب - إنه يصبح من غير الممكن تمويل عجز الميزانية من خلال إصدار سندات محلية، فعلاوة على ما يترتب عليه من تخفيض إضافي في السيولة فإن البنوك لن تكون قادرة على الاستثمار في هذه السندات في ظل وصولها لمعدلات عالية من الإقراض نسبةً إلى ودائعها. ج - إنه يضغط على أسعار الأصول المختلفة خصوصاً الأراضي والعقارات بصورة تدفعها للتراجع بقوة، يزيد من حدته معاناتها من فقاعة سعرية بسبب ارتفاعها المبالغ فيه جداً خلال السنوات القليلة الماضية. د - يصبح هناك صعوبة في تسوية المدفوعات النقدية بين وحدات الاقتصاد، وهو ما يؤثر سلباً على مستوى النشاط الاقتصادي. ه - إن كل الحديث عن حلول تمويلية لمشكلة الإسكان تصبح في واقع الأمر غير قابلة للتطبيق أصلاً، في ظل محدودية قدرة البنوك على توسيع الائتمان المصرفي، وبالتالي عدم قدرتها على المشاركة بفاعلية في برامج تمويل إسكانية خلال هذه المرحلة. ز - أن يكون هناك ارتفاع في معدلات الفائدة المحلية بصورة قد لا تكون مبررة في ظل ارتباط الريال بالدولار الذي يفرض تساوياً في معدلات الفائدة على العملتين، إلا أن عدم توقع حدوث تدفق رأسمالي نحو الداخل يفرض المحافظة على هذا التوازن بسبب عوامل عديدة من بينها المخاطر المرتبطة بسعر الصرف، يجعل من الممكن حدوث ارتفاع كبير في معدلات الفائدة محلياً. 3 - كيف نخرج من هذه المشكلة؟ لكي يستعيد عرض النقود توازنه فإنه يلزم حدوث أحد أمرين: أ - ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير يعيد التوازن للميزانية الحكومية ولميزان المدفوعات، ما يسمح لمؤسسة النقد باتخاذ إجراءات تعزز السيولة النقدية مثل شراء السندات الحكومية، ومن خلال نمو معدلات الإنفاق الحكومي الذي يمثّل تدفقاً نقدياً جديداً في الاقتصاد يعزز عرض النقود. ب - تخفيض قيمة الريال أمام الدولار بشكل كبير يحسن من التوازن المالي الحكومي وتوازن ميزان المدفوعات، ما يتيح لمؤسسة النقد اتخاذ إجراءات تساعد على زيادة عرض النقود مع تراجع الضغوط في سوق النقد الأجنبي. وفي ظل كون الوضع الحالي غير قابل للاستمرار على مدى طويل، خصوصاً لما يترتب عليه من تآكل سريع في احتياطيات النقد الأجنبي، فإن الأمل ما زال قوياً بأن يكون خروجنا من هذه المشكلة من خلال استعادة سوق النفط عافيتها قريباً.