نواصل اليوم ترجمتنا لمختارات من دراسة البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك وهي الدراسة الأولى ضمن «مختارات د. حمد العيسى- دراسات نادرة»، وهو مشروع شخصي دشنه كاتب هذه السطور مؤخراً عبر مؤسسة الانتشار العربي في بيروت. البروفيسور بيورن أولاف أوتفيك هو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية، كلية العلوم الإنسانية ، جامعة أوسلو، مملكة النرويج. ونشرت الدراسة في يونيو 2014: النتيجة: هل ذاب السلفيون في السياسة؟ وفي حين بدأ العالم الغربي يستوعب ببطء وعلى مضض حقيقة وصول الإخوان المسلمين إلى مواقع السلطة في عدة دول عربية، لوحظ اتجاه جلي ببزوغ السلفيين باعتبارهم يمثلون «الأشرار الجدد» (Bad Guys)، لكونهم يمثلون التعصب الديني ورأي متخلف للعلاقات الجندرية ويقومون بهجمات عنيفة على الأقليات والمصالح الغربية. ولكن هذه التوصيف تبسيطي إلى حد ما. صحيح أن السلفيين محافظين جدا بخصوص القضايا الاجتماعية. ولكن من المهم جداً أن نميز بين الجماعات السلفية الجهادية الصغيرة التي تقوم بأعمال إرهابية مماثلة للقاعدة من ناحية، ومن ناحية أخرى الحركات السلفية العريضة التي دخلت إلى حلبة السياسة الحزبية. صحيح أن السلفيين في تلك الحركات العريضة يسارعون إلى إلقاء اللوم على النفوذ الخارجي المسيحي حول أي أمر لا يعجبهم وهم مسؤولين أيضاً عن إثارة تصادمات طائفية، ولكن لنفهمهم بصورة أعمق يجب أن نراقب كيفية تطور خطابهم عندما يدخلون السياسة. لقد جعلت ثورة 25 يناير 2011 في مصر السلفيين يواجهون خياراً حاسماً بين مسارين: (أ) عدم المشاركة في السياسة وابتعادهم عن نبض الشعب وبالتالي فقدان أهميتهم، أو (ب) التعامل مع السياسة مباشرة وعلنا. وبالنسبة لأولئك الذين اختاروا الخيار الأخير، فقد كانت المشاركة في السياسة تعني حتماً اتباع نفس المسار الذي سلكه قبلهم الإخوان المسلمون مما سيؤدي إلى نهج أكثر براغماتية لما يعنيه تنفيذ إرادة الله. تكلفة باهظة للمشاركة السياسية منزلة السلفيين الرفيعة كمدافعين صلبين عن المبادئ الأخلاقية والعقائدية النقية للدين والجاذبية الناتجة عنها من الصعب مواصلة التمسك بها عند دخول حلبة السياسة. وبالتالي، سيكون للمشاركة السياسية تكلفة باهظة. ولكن المشكلة هي أن تكلفة عدم المشاركة السياسية ستكون مرتفعة بالمثل. فالبقاء منعزلين تحت دكتاتورية قد يحميهم من القمع ويحمي سمعتهم، وبالتالي يخدم موقفهم مع الجماهير كمدافعين غير فاسدين عن الحقيقة. ولكن في ظروف الثورة، وعندما تنهار الدكتاتورية وتنفتح طرق للمشاركة وتغيير الظروف من خلال العمل الشعبي والانفتاح السياسي، فإن استمرار البقاء بعيداً عن الحلبة السياسية قد يؤدي إلى التهميش. ثلاثة اتجاهات داخل السلفية السياسية بعض السلفيين يرغبون في السلامة ويبقون بعيدا عن السياسة. ولكن أولئك الذين يختارون دخول السياسة يواجهون معضلة أساسية بطرق مختلفة. الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا صنفهم مبدئياً إلى ثلاثة اتجاهات واضحة من حيث منهجهم في المشاركة السياسية: (أ) «ما قبل السياسي» و (ب) «السياسي» و (ج) «الشعبوي» (49) فئة «ما قبل السياسي» تمثّل محاولة للهروب من المعضلة عبر العمل في كلا الاتجاهين. وهذا يعني الترشح للبرلمان ولكن لغرض وحيد وهو مراقبة كل ما يمس التقاليد الأخلاقية الإسلامية بتفسير سلفي ضيق. وتركز هذه الفئة في البرلمان حصريا على قضايا مثل: حظر الخمور، وفرض الفصل بين الجنسين في أماكن العمل والمؤسسات التعليمية، والإلتزام بالملابس اللائقة وتعمل بشكل عام على تنظيم قوانين الشؤون الاجتماعية وفقا للشريعة. يسمي لاكروا هذه الفئة «ما قبل السياسي»: لأنها تتجنب دخول معترك السياسة بالمعنى الكامل لتحمل المسؤولية من أجل حل قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. ويمكن للمرء أن يجادل إلى حد ما أن جزءا من قيادة جماعة الدعوة السلفية تصورت الغرض من تأسيس حزب النور بهذا المنظور وهو ما تسبب في النزاع مع القيادة الأولى للحزب. وينطبق الأمر نفسه على الأرجح على السلفيين الكويتيين في مجلس الأمة على الأقل حتى منتصف العشرية الأولى من القرن الحالي. ويمثل حزب النور، تحت قيادة عبد الغفور المثال الأكثر وضوحاً للسلفيين السياسيين أي فئة «السياسي» وفقا لتصنيف لاكروا ممثلاً في برنامج الحزب وفي النشاط البرلماني الذي يغطي معظم المجالات الاجتماعية والسياسية. وهي أيضا سمة للتطور المحتمل للسلفيين المشاركين في السياسة في الكويت، على الأقل منذ مرحلة انتخابات عام 2009 عندما أصبح معظمهم جزءا من جبهة واسعة النطاق لإصلاح سياسي نحو الحكم البرلماني الكامل. ويمثل الفئة الثالثة «الشعبوي» وفقا لتحليل لاكروا في مصر حازم أبو إسماعيل، الذي ركز جهوده منذ بدء الثورة على التعبئة في الشوارع وترويج التغيير عبر المظاهرات وغيرها من الأنشطة خارج البرلمان. (...). تصنيف لاكروا ربما يعطي صورة معقولة للانقسامات داخل التيار السلفي المصري وهي الانقسامات التي - وفقا لما حدث في الكويت – قد تتكرر تماماً في بلدان أخرى عندما يحاول السلفيون دخول حلبة السياسية. بمرور الوقت... السلفيون يتسيسون بالكامل ولكنني أجادل هنا بأنه تحت استمرار وجود ظروف تُعزز الديمقراطية، فإن فئتي «ما قبل السياسي» و«الشعبوي» ستكونان تحت ضغط قوي ومستمر للاندماج في فئة «السياسي» ما سيجعل الخيار أمام السلفيين أكثر حسما ووضوحا: إما ممارسة السياسة بالكامل أو الإبتعاد عنها بالكامل. منهج مراقبة الأخلاق والسلوك الاجتماعي العام قد يُكسب السلفيين أصوات هامة لفترة محددة فقط ربما لكون الناخبين يكرهون فساد النظام القديم وربما يكرهون أيضا نزاع الفصائل السياسية بعد الثورة في ظل غياب تحسينات فعلية في حيواتهم. ولكن كما تجلى في التجربة الكويتية ، فحتى مع الناخبين المرفهين، فإن توقع الناخبين لنتائج إيجابية - مع مرور الوقت - من حيث الإصلاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية سيجبر السلفيين السياسيين على التعامل مع القضايا الأوسع نطاقا لأجل البقاء في المنافسة. وأما بالنسبة للفئة «الشعبوية»، فيمكن مناقشة مدى كونها حقا فئة منفصلة. لأنه مجددا بوجود ظروف تُعزِّز الديمقراطية فإن الشعبويين سيواجهون بسرعة خيارا حاسما بين ترجمة قوتهم في الشارع إلى قوة انتخابية، أو اتخاذ قرار إستراتيجي برفض الاعتراف بالنظام السياسي، ليصبحوا حركة مناهضة للنظام مع كون الخيار الجهادي يلوح دائما في الأفق. وفيما عدا وجود نظام استبدادي راديكالي مستمر يزوّدها بالشرعية، فإن نتيجة الخيار الأخير في جميع الاحتمالات هي التهميش. التفاعل السلفي مع انقلاب 3 يوليو 2013 في مصر مثير للاهتمام في هذا الصدد. فمن المؤكد أن نظام ما بعد الانقلاب كما تطور حتى وقت كتابة هذه الدراسة يمثّل عودة سلطة استبدادية بوضوح. وكما هو متوقع، فمنذ الانقلاب شهدت البلاد عودة ظهور العنف السلفي الجهادي في مصر (وزيادة العنف في سيناء، حيث معقل الجماعات الجهادية بالفعل). وإذا فشلت الاحتجاجات المستمرة ضد الانقلاب في تقويضه، واستقر النظام السلطوي-الاستبدادي المدعوم عسكريا ، فإن الخيار الجهادي قد يكسب الشرعية والأتباع من داخل الدائرة السلفية الكبرى. ومن الممكن أن نشهد تطورا مهما يتمثل في انقسام سلفي حول الموقف من الانقلاب. لقد دعم حزب النور الانقلاب بشكل واسع وكان مستعدا للمشاركة في خارطة الطريق السياسية التي وضعها صناع الانقلاب بينما وقف كل من حزب الوطن والجهاديين السابقين في الجماعة الإسلامية بحزم مع الإخوان المسلمين في رفض شرعية الانقلاب. وتشير استطلاعات الرأي إلى تراجع كبير في التأييد الشعبي لحزب النور(*). ويبدو أن هذا يشير إلى أن مجرد دخول السياسة يغير اللعبة بالنسبة لأنصار الدعوة السلفية (من حيث شعبيتها بين الناس). فبينما كان يمكنهم في عهد مبارك المحافظة على صورة ورعة ومستقيمة كممثلين للأخلاق الإسلامية القويمة لكونهم منعزلين عن المشهد السياسي، إلا أن أنصارهم يحملونهم الآن مسؤولية ما يفعله الممسكين بالسلطة. إذن هناك ضغوط قوية تدفع السلفيين نحو التفاعل السياسي الصحيح. وعندما يتفاعلون «لا يعملون في قاعة للصلاة ولكن في قاعة للمناقشة» (وفقا لمقولة سعد الكتاتني المذكورة آنفا). ويجب أن تترجم في هذه القاعة الشعارات والمبادئ إلى حلول عملية للمشاكل الحقيقية. وهناك مجال - خلال المدى القصير وبالتأكيد في سياق مجموعة الظروف الفعلية في مصر - للتنافس مع الإخوان المسلمين من خلال تصوير أنفسهم بأنهم الأكثر انضباطا والتزاما بالإسلام منهم. ولكن انخراط السلفيين في السياسة سيجبرهم حتما - على المدى الطويل - لاعتماد تفسير عام مرن لرسالة الإسلام الاجتماعية بدلا من التركيز على التفاصيل الجزئية الصغيرة ، وسيجبرهم على تطوير منهج أكثر براغماتية لحل المشكلات، بدلا من مجرد الدفاع عن مبادئ جامدة غير قابلة للاجتهاد. ضريبة باهظة للمشاركة السياسية: نزع قدسية الخطاب السلفي وتسريع العلمنة أيضا تؤدي المشاركة السياسية لنزع القدسية من الخطاب والممارسة السلفية بطريقة أخرى مهمة. فالقبول بمنافسة «الآخرين» في حلبة سياسية مفتوحة يعني - على الأقل ضمنياً - الاعتراف بشرعية الاتجاهات الأيديولوجية الأخرى وبالتالي انتفاء زعم السلفيين بتمثيل الحقيقة المطلقة. ويحدث هذا على أكثر من مستوى. فعلى أحد جانبي الطيف، لعل القضية الأكثر إثارة للنزاع بين السلفيين ستكون تقديم الشرعية للعلمانيين لا بل حتى الشيوعيين الملحدين عبر قبول التنافس معهم على أصوات الناخبين. ولكن هذه الإشكالية ستكون على الأقل بمثل الحقيقة المُرَّةْ أنه بدلا من تمثيل الإسلام ضد العلمانيين، فإن السلفيين لا يتنافسون فقط مع آخرين يدعون تمثيل الإسلام كالإخوان ولكنهم أيضا يتنافسون فيما بينهم نظرا لانقسامهم لعدد من الأحزاب السلفية. هذا التطور لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نسبوية(**) (Relativism) الرسالة: حيث سيبدو أنه ليس هناك حقيقة إسلامية واحدة بل حقائق متنوعة. وهذا سيؤدي بسرعة إلى رسوخ فكرة أن الاختلافات مع العلمانيين - مثلا - هي اجتهادات بشرية غير معصومة من الخطأ لفهم وتعزيز القيم الإسلامية. لقد أدى تطور مماثل داخل المسيحية في الغرب دورا هاما في تسريع العلمنة. هوامش المترجم: (*) أطلق مؤيّدو الديمقراطية بمصر على حزب النور بعد انقلاب يوليو 2013، «حزب الزور» وحاليا يُطلق عليه شركاؤه في الانقلاب من العلمانيين «حزب الظلام» أي أنه رجع بخفي حنين بعدما انتهى دوره في الانقلاب. وتعرض الحزب لخسارة فادحة ومذهلة حيث حصل بالكاد على 12 مقعداً في انتخابات برلمان 2015 الانقلابي مقارنة ب 123 مقعداً في برلمان 2012 الديمقراطي. (العيسى) (**) النسبوية (Relativism): هي فكرة فلسفية تشير إلى أن قيمة ومعنى المعتقدات الإنسانية والسلوك الإنساني ليس لها أي مرجعية مطلقة تقوم بتحديدها. فعملية تقييم المجتمعات الإنسانية للقيم والسلوكيات هي نتاج النسيج التاريخي الثقافي لهذه الجماعة البشرية وليس له علاقة بمرجعية خارجية مطلقة (إلهية) تمد هذا التقييم بقدسية معينة وتحول دون تغييرها، بالتالي فعملية إعادة تقييم السلوكيات والمثل البشرية ضرورية كل فترة وهي تختلف من مكان لآخر ومن جماعة لأخرى. (العيسى) ..........................................يتبع ** ** ** الأسبوع بعد القادم دراسة مهمة بعنوان: «التيار الإسلاموي يتحدى القانون الوضعي المصري». ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء