رد على مقاله ب«الجزيرة» المنشور بعدد الخميس 27-3-1437ه، زاوية المسكوت عنه، (مع العودة بين يدي بن بيه). قال حمزة السالم: «وعلى العشاء الفاخر اللذيذ، سألت العلامة السخي الجواد السؤال الأخير -الذي لا يناقشه أحد مهما طرحته لأنه مقتل الصيرفة الإسلامية- فقلت أليس الاستدلال بحديث تمر خيبر على جواز التحايل في القروض هو استدلال بجواز التحايل على الوسائل من أجل التحايل على الغايات، فتحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، فاستدلالهم به على استحلال ربا النسيئة كمن يستدل بجواز الخلوة عند الحاجة بجواز الزنا، كما أن الاستدلال بحديث خيبر على استحلال التحايل على ربا النسيئة يلزم منه صحة الاستدلال بحديث العرايا على استحلال القروض الربوية للتفكه؟ فنظر إلي العلامة الأصولي -ثم لم يكن سخيا بعلمه جوادا كاستقباله وعشائه- فلم يُجبني، كما أنه لم يُجب أحدا من قبل على هذا، فهو مقتل للصيرفة الإسلامية وزوال شرعيتها». قلت الجواب عن هذا من وجوه: 1 - أولاً ما ذكرت من حديث خيبر وحديث العرايا يحل الوسيلة لأجل الغاية، إنما هو قاعدة شرعية، لأن حديث العرايا استثناء للحاجة، والروايات التي رويت هذا الحديث صرحت بالاستثناء والرخصة، وإذا كان الأمر استثناء فلا يحل لك الاستدلال به عند العالمين، ففي لفظ الحديث: «نهى عن بيع المزابنة، والمزابنة: بيع التمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرايا»، فعلم أن العرايا مستثنى من الأصل، وما شرعت إلا لحاجة فلا يجوز القياس عليه أبدا عند أحد من أهل العلم، كما أن الحديث في وقت مخصوص، وهو وقت الثمرة وظهور الرطب، ويريد الفقير أن يحصل على التمر الرطب، وحيث لا مال حينئذ فرخص تمر رطب بتمر قديم، وبينهما فرق في الجودة لأجل الحاجة، وقد صرح بالعلة في الحديث حتى لا يبقى عذر لأحد، فقال: «نهى عن بيع الثمر بالتمر إلا أنه رخص في بيع العرية أن تباع بخرصها من التمر يأكلها أهلها رطبا»، ولأجل أنه استثناء فقد حدد كمية المقدار المسموح به، فقال: «فيما دون خمسة أوسق» أي بمقدار 130 كيلو تقريبا على الصاع الحجازي، وقد جاء السبب صريحا في رواية زيد بن ثابت فقال: «وسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبا»، وهذا ما نص عليه العلماء: «إن العرايا للذي لا نخل له من ذوي الحاجة، ولا نقد لديه ليشتري به رطبا لعياله، ولا نخل ليطعم عياله منه، ويكون عنده فضل من قوته من التمر فيأتي لصاحب التمر الرطب فيأخذ ثمر نخل بما عنده من التمر القديم، فرخص إن كان أقل من خمسة أوسق، وهو أقل ما يجب فيه الزكاة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة)، وهو مقدار ما يؤكل ولا يصلح للتجارة؛ لأن العرايا للأكل لا للتجارة بل للاستهلاك، فالعرايا فيها رخصتان: 1 - رخصة بيع المكيل بالمخروص. 2 - رخصة بيع الرطب باليابس، وترجع الرخصة لحقيقة واحدة وهي الاستثناء من مبدأ التساوي، على أنه لم يُلْغِ التساوي بالكلية بل غلب فيه الظن والخرص، وهذا للحاجة، ولابد لجواز العرايا -كما جاء في النص- أن يكون المشتري لا ثمن ولا دراهم معه، ولا شيء سوى التمر عنده، فلو كان لديه طعام آخر لاشترى به التمر متفاضلا يدا بيد، وكذا لو معه نقود لاشترى بها، فالعرايا استثناء من ربا الفضل للحاجة، وهذا مبدأ شرعي أن ربا الفضل أمكن جوازه للحاجة، فالغرض من العرايا الإرفاق وقصد البيع فيها ليس هو الأصل، فلا ربح فيها أشبهت القرض. وأما ما تقوله من أن هذا الحديث وحديث تمر خيبر تحايل على المقاصد فهذا غير صحيح، والحيل محرمة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء، وإنما وقع الخلاف في بعض الصور هل هي من الحيل أم لا؟ قال ابن كثير -عن علة النهي عن شراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض-: «حسما لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. وفي السنن عن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وفي الحديث الآخر: «الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس». وفي رواية: «استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك»، وقال الثوري: عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية الربا. رواه البخاري عن قبيصة، عنه. وقال أحمد، عن يحيى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة. رواه ابن ماجه وابن مردويه. وروى ابن مردويه من طريق هياج بن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ومن هذا القبيل، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد، فقرأهن، فحرم التجارة في الخمر. وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي، من طرق، عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري، عند تفسير الآية: فحرم التجارة، وفي لفظ له، عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس، ثم حرم التجارة في الخمر. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال، عليه السلام في الحديث المتفق عليه: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها». وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما، عند لعن المحلل في تفسير قوله: (حتى تنكح زوجا غيره) البقرة: 230، قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه». قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا، فالاعتبار بمعناه لا بصورته؛ لأن الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، وقد صنف الإمام، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في «إبطال التحليل» تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى، فرحمه الله ورضي عنه»، وهذا معنى كلام العلماء في قاعدة: «الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل في باب ربا الفضل». أما قولك: «فتحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل». فأقول هذا غير صحيح بل ربا الفضل محرم لذاته ولكن ربا النسيئة أشد حرمة منه، بدليل حديث تمر خيبر نفسه الذي ذكرته وحديث العرايا فربا الفضل أصل محرم لذاته فلو كان من باب الوسائل لصار الفضل مستباحا لأدنى مناسبة في مقابلة زيادة كبيرة وهذا ظلم، وربا الفضل محرم لذاته بدليل حديث مالك بن أوس بن الحدثان النصري؛ أنه التمس صرفا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا، حتى اصطرف مني. وأخذ الذهب يقلبها في يده. ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة. وعمر بن الخطاب يسمع. فقال عمر: والله، لا تفارقه، حتى تأخذ منه ثم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الذهب بالورق، ربا، إلا هاء، وهاء. والبر بالبر، ربا، إلا هاء، وهاء. والتمر بالتمر، ربا، إلا هاء، وهاء. والشعير بالشعير، ربا، إلا هاء، وهاء». فهذا صريح أن ربا الفضل محرم لذاته لا لأنه وسيلة وهو ما صرح به في الحديث (إذا اختلت الأجناس فبيعوا كيف شئتم). أما قولك: «كما أن الاستدلال بحديث خيبر على استحلال التحايل على ربا النسيئة يلزم منه صحة الاستدلال بحديث العرايا على استحلال القروض الربوية للتفكه؟». فأقول: حديث تمر خيبر لا دليل لك فيه على ما ترمي إليه، والحديث مخرج حسن من الوقوع في الربا -ربا الفضل- ولا يقاس عليها ما ذكرت من القرض الربوي لأجل التفكه لأن الحديث يدل على حسم باب الربا ويشجع عجلة الاقتصاد على المضي بتدخل وسيط ومعاملة جديدة بأطراف جديدة، علة تحريم الربا هو في الزيادة بلا مقابل وعوض، ولئلا يصبح المال دولة بين طائفة بعينها ويزداد الفقير فقرا والغني غنى جاءت هذا الطريقة الشرعية لكي تدور عملية الإنتاج ويتدخل طرف ثالث مستفيد من المعاملة، فينمو الاقتصاد ولا يقع التضخم الذي يعاني منه النظام الربوي ولا يؤدي للركود الذي تعاني منه مؤسسات الغرب وتراكم الديون بلا معنى، وازدياد الطبقية التي عجز نظام الربا عن القضاء عليها، فلو عملوا بهذا الحديث لانحلت المشاكل، كما أن القرض الربوي لا مصلحة فيه لطرف ثالث بل الأموال ستضخ في جيب واحد، ويزداد الأمر سوءًا والحديث منع العملية، لأن الغني سيكون هو المستفيد فقط، وقد يقع الظلم على صاحب التمر الرديء لأنه ربما -لسوء تمره- يرضى بشروط صاحب التمر الجيد ولئلا ينحصر التمر الجيد في أهله فقط فيكون المال دولة في فئة الأغنياء، كما أنه ذريعة للضغائن والأحقاد، كما أنه قد يوقع في شبهة ربا النسيئة فكلما اقترب الفقير من التسديد وضاق عليه الأمر تنازل أكثر فيؤدي لربا النسيئة الذي أشد حرمة والنساء أشد حرمة من ربا الفضل، وهذه الصورة إذا لم تتم كما جاء في الحديث لأدى لربا النساء.