خلق الوظائف هو الترجمة الضمنية في الاقتصاد لمفهوم نمو اقتصادي صحي يملك القدرة على استثمار الموارد وتوظيفها لخدمة الإنسان وتعزيز أدوات رفاهه، وفي بلادنا ظل توفير الوظائف مسؤولية حكومية بحتة حتى تحولت الوزارات والمصالح الحكومية إلى مؤسسات مثقلة بالموارد البشرية التي كرست وجسدت مفهوم تناقص الإنتاج الحدي في التنظير الاقتصادي. أيا ما كان شكل الماضي وحال الواقع فنحن اليوم أمام مخاض تحول اقتصادي في مفهوم التعاطي مع الإنتاجية وخلق الوظائف من خلال برنامج وطني يحمل آمالاً كبيرة نتمنى له النجاح، ولا نخفي كاقتصاديين تحدياته ومصاعبه التي لن تكون يسيرة بكل تأكيد. الحديث حول إمكانية خلق فرص وظيفية كبيرة وبأرقام متفائلة في المستقبل لا يمكن تحقيقه من خلال قراءة أولية للأرقام التي تقدمها الإحصاءات المتاحة في سوق العمل، فطبيعة السوق اليوم كما هو جلي هي نتاج حلول مؤقتة لا يمكن التقليل من آثارها الإيجابية المؤقتة لكنها ما تزال بعيدة عن مسار الحلول الجوهرية الهيكلية التي تتطلب معالجات تمس العمق الذي يمهد لواقع صحي مستدام في سوق العمل. الإحصاءات الرسمية تشير إلى تركز 67 % من حجم العمالة الوطنية في القطاع الخاص في قطاعي التشييد والتجزئة، ورغم أن هذه النسبة الكبيرة من الرقم الإجمالي لحجم العمالة الوطنية في مجمل القطاع الخاص البالغ 1.6 مليون موظف وموظفة يمكن القول إنها تعمل في المفهوم الواسع لهذين القطاعين إلا أنها تعكس بالمقابل حجم الخلل الذي يشهده واقع السوق، فحين نعلم أن عدد النساء المسجلات في كشوفات قطاع التشييد يبلغ 120 ألف امرأة فهو يوضح أيضاً حجم تدفق العمالة الأجنبية لهذا القطاع الذي يتيحه برنامج نطاقات للمنشآت العاملة فيه، ومع التقدير للحديث عن أي تبرير بأن هذا العدد يعمل في الجانب الإداري دون التشغيلي فهو تأكيد إضافي أن خلل الكفاءة في استثمار الموارد البشرية الوطنية يصبح أكثر جلاء مع هذا التبرير! مجلس الاقتصاد والتنمية الذي يحمل على عاتقه اليوم كل الآمال الاقتصادية للبلاد أمام تحديات جمة، وقد تلمس المجلس الواقع بجدارة حين أعاد النظر في دور وزارة العمل وبادر بإنشاء هيئة مستقلة لخلق الوظائف ومكافحة البطالة، والمأمول اليوم أن تتجه هذه الهيئة لتجاوز مفهوم عد الأرقام الإعلامية للفرص الوظيفية إلى البحث المعمق في واقع الفرص الوظيفية وخلق البيئة المستدامة للموارد البشرية فيها، فكما ندرك ونؤمن أن بعض الوظائف لا يمكن أن تشغل بموظفين سعوديين وسعوديات لظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة إلا أن السياسات الحكومية الكفؤة التي تستهدف رفع الرفاه للمواطنين والمواطنات قادرة على النفاذ إلى تصحيح مهم ولو تدريجي واسترشادي في البداية من خلال تنظيمات تستهدف كفاءة الهياكل التنظيمية لمنشآت القطاع الخاص التي ما تزال غير فاعلة وواضحة لتحفيز الموارد البشرية الوطنية وغير متحررة من نفوذ القيادات الوافدة التي تمثل حجر عثرة في كثير من صورها أمام توطين وتحفيز الموار البشرية السعودية. كما أن الدعم الحكومي الذي نشهد تحولاً نوعياً في توجيهه نحو مفاصل النمو والتنمية الأكثر كفاءة بات اليوم أكثر قدرة على التصحيح والمراجعة لتوجيهه نحو التخصصات النوعية الملحة في مسار النمو والتنمية الاقتصادية التي نستهدفها في طريق التحول القادم، فالتركيز على توطين الوظائف القابلة والمهيأة للاستدامة سيساهم في خلق وظائف ذات مسار مهني (Career) واضح قادر على تحفيز الشباب والفتيات على العمل وخلق نماذج محفزة للاقتداء. والأهمية اليوم تتزايد في التعويل على قطاع الخدمات والمنشآت الصغيرة والمتوسطة (SMEs) التي تعاني ثغرات تنظيمية ومعوقات تحد من فاعليتها في خلق الفرص الوظيفية رغم أنها الأكثر توظيفاً في اقتصادات العالم اليوم والقادرة على عكس نتيجة الإنفاق الكبير على التعليم والتدريب في البلاد بشكل أكثر إنتاجية. وزارة التجارة والصناعة اليوم يمكن أن تطلق برامج على غرار ما أطلقته وزارة العمل في نطاقات وغيرها -رغم التحفظ على بعض أوجه كفاءتها- بالتعاون مع الهيئة الوليدة لخلق الوظائف ومكافحة البطالة تستهدف كفاءة المنشآت في تطوير الموارد البشرية لكي لا يتحول السعوديون والسعوديات إلى مجرد أرقام في سجلات المنشآت!