أكاد أجزم أن نجاح مباراة (السوبر) بين الهلال والنصر، التي أقيمت في لندن، وحضرها السعوديون من النساء والرجال معا، ستدفع بالمنظمين لمثل تلك المباراة، والأندية ثانيا، والاتحاد السعودي لكرة القدم ثالثا، لتكرار التجربة، وإقامة مثل هذه المباريات في الخارج مرات ومرات؛ فمثلما (ننحاش) بحفلاتنا الغنائية إلى خارج المملكة، فالمباريات ستنحو ذات المنحى؛ وسوف (ننحاش) أيضا بالمباريات والمسابقات الرياضية إلى الخارج، كي تحضرها (المرأة)، مثلما يحصل في كل بقاع الأرض في العالم أجمع. فنحن - للأسف - نراعي ونجامل، ونتحاشى الصدام، مع ثقافة متخلفة، ورجال متشددين ومتزمتين، ونخاف (إغضابهم) خوفا مرضيا غير مبرر لا شرعا بدليل من الكتاب والسنة، ولا أخلاقيا باحتمالات تدعونا إلى منع المرأة من حضور مثل هذه الاحتفالات الرياضية البهيجة؛ اللهم إلا (التحوط)، أداة المتزمتين، المغرقة في التشدد والوسوسة، التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ فهذه الثقافة التي نراعيها، ونمنع بسببها المرأة من حضور المباريات، ثقافة تكره الترفيه، وتبغض الابتسامة، وتنفر من الموسيقى والفنون الجميلة بأشكالها، وتنوعاتها، وبالذات (الطرب والغناء)، من قبل أناس متكلسين، منغلقين، يفرضون علينا عللهم النفسية وتقاليدهم الاجتماعية العابسة المتجهمة؛ وكأنهم هم فقط (الصالحون)، وكل أمم الأرض غيرهم (طالحون)؛ وحينما تسألهم عن منطلقات تحريمهم لهذه الظواهر دونما دليل، يخترعون أدلة وقياسات وتخوفات افتراضية بعيدة الحدوث، ويضعون منها دليلا قطعيا، من شكك فيه، أو في دلالاته، أو ارتباطه بحرمة هذه الممارسات البريئة أو تلك، أقاموا عليه الدنيا، وحرضوا عليه الناس، في محاولة كيدية حاقدة للإضرار به، وبسمعته، وبقيمته الاجتماعية؛ بل وسلامة ديانته. وهناك كثير من (الأضرار) والتبعات السلبية، التي تنتج عن مجاملتنا للمتزمتين؛ فمراعاتنا لهؤلاء، تكلفنا وتكلف الوطن، خسائر على مستويات متعددة؛ أهمها على الإطلاق (المستوى الاجتماعي والثقافي)؛ فحصارنا للمناشط الترفيهية، وتضييقنا على الفنون والطرب، وعلى البهجة بمختلف أنواعها وأشكالها، يجعل الفرد، خاصة الشاب بالذات، يُفرّغ حماسه الإنساني، واندفاعه، وصبوته الفطرية، ليس في الترفيه والإبداع الفني، وإنما في الإرهاب، أو في التفحيط، مثل ما يفعل (الدرباوية) من شبابنا. وبالمناسبة فليس لدي أدنى شك أن ثمة علاقة قوية، وعكسية، بين الإرهاب وتغييب البهجة والتمتع بالحياة؛ فكلما (ضيقنا) على هذه، (زادت) تلك، والعكس صحيح. لذلك نجد أن أساطين الإرهاب تكره الفنون وتمقتها، لأن من شأن هذه الممارسات صرف الشباب عنهم، وعن معسكراتهم ومحاضنهم الإرهابية. الضرر الثاني ضرر اقتصادي بحت. فكم خسر الاقتصاد السعودي نتيجة تضييقتا على البهجة والترفية والسياحة، وكم ربح الآخرون في الخارج من ذلك؟.. الكثير والكثير جدا؛ غير أن ذهنية المتشدد، خاصة في المجتمعات ذات الاقتصاديات الريعية، ذهنية لا تقيم للمصلحة الاقتصادية وزنا، قدر اهتمامها بالتشبث بالموروث من العادات والتقاليد، حتى وإن ألقت بالمجتمع في مشاكل اقتصادية وبطالة وضيق فرص العمل. الضرر الثالث ضرر سياسي محض؛ فكلنا نعرف أن ثمة اتجاه لحرمان المملكة من المشاركة في المسابقات الرياضية العالمية، والسبب تغييبنا للمرأة، عن المشاركات الدولية؛ وهذا فيما لو استمر دون علاج حاسم، فسوف يتم قطعا حرمان المملكة من هذه المناشط العالمية، التي تحرص عليها الدول، وتبذل الكثير لاستضافتها - كما فعلت قطر مثلا - لما في ذلك من مردودات ليس على التطور الرياضي فحسب، وإنما على الاقتصاد والسياسة بالمعنى الواسع لهذه المصطلحات. الضرر الرابع ضرر قانوني. فمبررات المتشددين حين يقفون ضد حضور المرأة للمباريات الرياضية، تتكئ على منع ما (قد) يترتب على حضور المرأة لهذه المناشط، من مخالفات شرعية (احتمالية) كما يبررون. وهذه النقطة بالذات (تدينهم) في حين يظنون أنها (تؤيدهم)؛ فكيف استطاعت دولة مثل إنجلترا وهي لا تُطبق الشريعة، تنظيم هذه المسابقات هناك، وحضور المرأة لها بأمان، في حين (تعجز) المملكة التي تطبق الشريعة، عن تأمين المرأة هنا؟.. إنه تخبط المتشددين، فعندما يفتقرون إلى دليل قاطع يحرم هذه الممارسات، يلجؤون إلى (سد الذرائع) غير أن تشبثهم بالذرائع هنا، لم يحقق لهم المراد، فهاهي مباراة السوبر أقيمت في لندن، بين ناديين سعوديين، وحضرها السعوديون، إناثا وذكورا، وغمرتهم البهجة والسرور، (وما شافوا شر)! مبارات السوبر في لندن، فرّغت كل تخوفات ثقافة التشدد والانغلاق من محتواها؛ وإذا لم ننتهز هذه الفرصة ونكرر ما حصل في لندن في مدن المملكة، ونواجه ثقافة التشدد ومخرجاتها، فليس ثمة إلا تكريس التشدد، والإغراق في تحدي المنطق، الذي تؤكده الحجج التي استعرضتها. إلى اللقاء