إن الله جل جلاله حين أورد آيات الربا في سورة البقرة أوسطها بآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وفي هذا حكمة عظيمة يجب أن يلتفت لها القارئ. فالربا إنما هو طلب لنماء المال بطريقة غير طبيعية، مخالف لنواميس الكون ولذلك صار مخالفة للشرع. فعندما نطلب من شيء لا يستطيع الولادة أن ينجب لنا فإننا بذلك نطلب مستحيلاً، والمال كمادة لا يمكن له بحال من الأحوال أن ينمو أو يزيد هو بذاته، ولذلك كان اشتقاق المال من المال هو الإشكال الأكبر. والحريري - رحمه الله - يقول: (إنّ منَ العَناء العظيمِ. استيلادَ العَقيمِ. والاستِشْفاءَ بالسّقيمِ. وفوْقَ كلّ ذي عِلمٍ عليمٌ) فعندما يأتينا شخص تعذر أن تنجب زوجته ويريد الإنجاب، فإن هناك عملية تعقيدية يجب أن يسلكها الأطباء من تنشيط لهرمون الرجل والتلقيح خارج رحم المرأة، وقد تتكلل هذه العلمية بالنجاح، وفي أحيان كثيرة فإنها تبوء بالفشل، أضف إلى ذلك إنه قد يؤخذ حيوانات منوية من غير الزوج أو يوضع اللقاح في رحم غير رحم الزوجة، وفي هذا إشكال كبير في اختلاط الأنساب وضياعها. فالقرآن الكريم من دأبه أنه إذا أغلق على البشر طريقا مشبوها فإنه يبين لهم الطريق الحلال الصحيح الذي فيه هدايتهم ورشادهم.فحينما حرم الربا ومنع كل الطرق المؤدية إليه والحيل التي تلتف عليه، أوضح الطريق السهل الواضح الذي يتناغم مع طبيعة الكون ونواميسه بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} والله سبحانه حين ذكر نص البيع فإن الشراء يدخل ضمناً، لأن البائع لا يكون إلا مشتريا. والبيع والشراء إنما هو بمقدور جميع الناس ويتم بأسهل الطرق وأيسرها فتجد العامي البسيط يستطيع أن يبيع ويشتري، لكن الربا إنما هو محصور بفئة معينة محتكرة لهذا المال، وإنما يكون بطريقة معقدة ملتوية ولا يفهمها إلا المختص الدارس لها. وبين سبحانه في الآية التي تسبق الآية المعترضة بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، إن هذا المرابي يكفر بنعمة الله عليه بعد أن سخر الله له هذا المال بفضله وكرمه، ولذلك تجد كفرهم بهذه النعمة إنما هو باستغلالهم المجتمع وإغراقهم إياه في هذه الديون. أي عداوة تلك التي حملت هؤلاء المرابين إلى مقابلة إحسان الله عليهم بالانتقام من بني جنسهم من البشر، إن هذا الدين إنما جاء ليحيي العدل بين البشر، فهو ليس كاليهود إذ يحرمون الربا بينهم ويجيزونه مع غيرهم. إن ديننا يدعو إلى العدل المطلق الذي لا يميز أحدا عن أحد. فإذا علمنا شناعة هذا الفعل، فإن المتحايلين على الربا إنما هم أقبح ممن أجازه علانية، لأنهم خانوا الناس الذين ائتمنوهم، وخانوا قبل ذلك ربهم الذي أوضح الفرق البين بين البيع والربا، فهم يتحايلون باسم الدين، وبالأخذ بالأقوال الشاذة. إن هذه الكارثة وصلت في عهدنا إلى درجة أنك لا تكاد تجد بيت إلا وفيه من هو غارق في براثن الربا. فلنتق الله فلنتق الله فلنتق الله. لذلك حين ذكر الله سبحانه الذين كفروا بآياته باستحلالهم ما حرم الله من أكلهم الربا أوسطها هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مبيناً ومذكراً فضل الذين يأتون في الكفة المقابلة للمرابين، بوصفه إياهم أنهم الذين آمنوا بأن حكم الله هو الحق في كل القضايا التي جاءتهم عن طريق القرآن العظيم والسنة المطهرة. ثم أوضح سبحانه أن الإيمان وحده لا يكفي بل يجب أن يتبع الإيمان بالعمل الصالح باجتناب الربا بأنواعه وأشكاله. فالمؤمن يقوم مقام الجندي الحارس بإيمانه بما جاء في القرآن والسنة، وكون هذا المؤمن يجتنب الربا فهذا من العمل في الأرض بما ينفع الناس. ويقابل هذه الفئة الذين لم يؤمنوا بما أنزل الله ولم ينتهوا عن أكل الربا، فكفروا بما جاء من عند ربهم من النهي وأفسدوا في الأرض. ثم أكمل سبحانه الآية بقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} هنا بين الحق زادين مهمين يعينان المؤمنين على أتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، فذكر بإقامة الصلاة التي هي بمثابة التطهير الروحاني النفسي للنفس المؤمنة، لكي تزيل الشوائب المادية عن هذا القلب، وقرنها بإيتاء الزكاة التي هي بمثابة التطهير العملي البدني لهذه النفس، والزكاة للمتأمل بها إنما هي تأخذ شكل الدائرة فما تقدمه كصدقة ينميه لك ربك ويرجعه لك أضعافاً مضاعفة، فالذكي هو الذي يزرع الطيب حتى يحصد الطيب. فهذه الآية إنما جاءت لتقدم النموذج الصالح الذي يجب على كل مسلم أن يحتذي ويقتدي به تجاه آفة الربا. الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي