يتذكر الأربعينيون - وأنا أحدهم! - كيف كان فكر شباب تلك السنين المتفتح المتسامح المستجيب للمتغيرات والمتعايش مع الثقافات المختلفة، ثم كيف انقلبت تلك الطبائع السمحة الطيبة المحبة خلال أقل من عقد من الزمان بدأت ملامحها منتصف التسعينيات الهجرية من القرن الماضي ثم ازدادت وضوحا خلال السنوات العشرين التالية لعام 1400ه حيث كانت هي الأكثر استقطابا لآلاف من شباب بلادنا إلى أفكار متزمتة ومسالك متطرفة ورؤى غريبة مستجلبة لم يكن شيء منها يدور أبدا في مخيلة الأجيال الماضية . كانت أجيال ما قبل 1400ه متفتحة لا تنظر إلى الأجنبي أيا كانت عقيدته أو ملته أو مذهبه نظرة ازدراء أو كراهية ؛ بل كانت تنطلق في تسامحها مع المختلف من تعاليم الإسلام الذي يحث على التعامل بالحسنى ويوصي بالقسط في ذلك ويؤكد أن الاختلاف سنة من سنن الله في هذا الكون وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ، «وما أنت عليهم بمسيطر» أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ . لم يفكر يوما أي شاب من جيل الطيبين الذين أوشكوا على الانقراض أن يؤذي غريبا أو أجنبيا؛ لاختلافه معه في الدين أو المذهب، ولم يكن يفكر أحد من ذلك الجيل؛ بل ربما لم يكن يسمع أن بلاده تعيش فيها طائفة أخرى شيعية؛ لأن الناس لم يكن يدور بينهم لا في مجالسهم ولا في تعاملاتهم بأن فلانا ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك ؛ فلا مخاوف أو وجل أو شكا عند طائفة تجاه الأخرى. وكان شباب تلك الأجيال - قبل تغول فكر ما سمي بالصحوة في المجتمع - يستمتع بحياته بطريقة عفوية ويلتزم في الوقت نفسه بقيمه الدينية ، ولذلك كان الانصهار وكانت المحبة بين المسنين وأجيال الشباب هي السمة الغالبة، ولو تبين ما يمكن أن يؤاخذ به أحد الشباب وجهت له النصيحة بأبوة ومحبة ولطف. ربما لم تسمع تلك الأجيال الطيبة كلمة «التكفير « يرمى بها عالم أو مثقف أو كاتب أو حاكم أو طائفة ؛ لأن تصنيف المجتمع وتقسيمه وتفتيته إلى جماعات وتيارات وأحزاب لم يكن موجودا على الإطلاق ؛ كانت الجماعة الوحيدة التي تدور بين المساجد وتترحل بين المدن والقرى والأرياف هي جماعة « التبيلغ « وكان خطها الفكري الظاهر على الأقل للناس هو الوعظ والتزهيد في الدنيا والتبتل والخلوات التعبدية ؛ لم يكن المجتمع - حينذاك - منقسما على نفسه؛ فما يمكن أن يوصف به اتجاه المجتمع هو انسجامهم مع الرؤى السلفية المحافظة وليونة واستجابة بين القبول والتردد لمعطيات الحياة الحديثة ؛ كتعليم المرأة والتلفزيون ونحوهما، وهو أمر طبعي في أي مجتمع بصدم بألوان من الحداثة لم يألفها. وكان مثقفو الأجيال الطيبة تلك يقرؤون لكل المبدعين العرب وغير العرب ، وكانت الروايات والقصص والمجلات تأتي إلى السوق السعودي ويباع رجيعها أو المستعمل منها في الأسواق الشعبية كحراج ابن قاسم - مثلا - بلا ريبة أو ملامة يمكن أن يتلقاها بائع في مكتبة أو بقالة ؛ كما كان يحدث زمن الصحوة! أما أجيال اليوم! فعلى الرغم من الفوارق الشديدة جدا بين فكرين واتجاهين من أفكار شباب اليوم واتجاهاته؛ أحدهما متشدد متطرف ، وثانيهما منفتح متشرب بالثقافة الحديثة ؛ إلا أن الذي يظهر ويبدو مؤثرا هو الميال للعنف ، وهي سمة الفكر المتطرف في أي مجتمع كان ، بينما يسلك الفكر المنفتح مسلك التسامح والحوار المدني السلمي. انقلب جيل اليوم على جيل الأمس ، وكأنه لم ينتم إليه ولم يتخرج على يديه ؛ بل وصل شططه إلى أن يكفر الابن أباه ويدعو إلى البدء بقتل أقرب الأقربين إليه! شدة وتزول إن شاء الله!