حين أقرأ هذه الأبيات لابن مُناذر في رثاء الإمام سُفيان بن عُيينة أجد أنَّها خليقة أن تكون في مثل الشيخ عبد العزيز ابن داود. وقد كنتُ ألجمتُ القلم عن الكتابة في كلمات الرِّثاء لأمرين: أمَّا أحدهما: فِلما أراه من توسُّع في الثناء ومبالغة في الوصف, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بعبده وقد حلَّ بين يديه, وكان الأليق بهذا المنعوت, الدعاء له الذي هو خير زادٍ في حال القدوم على الله. وثانيهما: أنَّ الكتابة قد تثير في النفس لوعة وأسى وتقليب مواجع, وقد رُكِّب الإنسان من ضعفٍ, فربما عاقه ذلك عن العمل أو سبَّب له تعنتًا على القدر. بيد أنِّي وجدتُ الكتابة مستطابة إذا كانت ذات نفعٍ متعدٍ في وقت صار الهداة فيه كالقزع في السماء, مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ الْمِائَةُ لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) لاسيما وقد ألحَّ الدهر بذهاب أهل العلم وآذن فيهم بِصَرم! ثم إنَّ في الكتابة تنفيس للنفس, وإبراز لسيرة أحد علمائنا فيُهدى بها من بعده, وقد كتب الله أنه لا يخلو عصر من قائم لله بحجته, ومَن أعني في الكتابة عنه هو شيخنا الفقيه الفرضي الورع أبو عبد الله عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحمن الداود, أحد بقية السلف في هذا العصر, الذي وُلد في حريملاء قريبًا من سنة 1347, في بيت عرف فيه ثلة من أهل العلم وحملة القرآن, فحفظ القرآن صغيرًا, ثم بدأ القراءة على علماء بلدته حتى أدرك, وممَّن قرأ عليه قاضي الشعيب الشيخ عبد الرحمن بن سعد بن حسن, وحدَّثني شيخنا أنه قرأ عليه في الفرائض منظومة الرحَبية, فكانوا يحفظون كل يوم بيتًا واحدًا لا يجاوزونه, ثم أمَّ الرياض سنة 1370, وممن قرأ عليه قاضي الرياض سابقًا ثم إمام الجامع الكبير الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد, وكان عالمًا حافظًا, ثم التحق بالمعهد العلمي في الرياض بعد افتتاحه, وبعده التحق بكلية الشريعة, وقرأ فيها على كبار العلماء ممن يدرِّس فيها, أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز, والشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ الفقيه عبد الله الخليفي وسواهم, وكان يُصطفى بعض طلبة الكلية للتدريس في المعاهد العلمية قبل تخرّجهم, فكان شيخنا ابن داود أحد هذه الثلة المختارة, فدرَّس في معهد شقراء سنة 1377, ثم واصل دراسته في كلية الشريعة حتى تخرَّج منها في الدفعة الرابعة من طلابها. وبعد تخرّجه ألزمه الشيخ محمد بن إبراهيم بالقضاء في مدينة الرياض, وفي تولّيه القضاء في العاصمة (الرياض) دليل على أثَرة الشيخ به لهذه العاصمة لعلو كعبه في العلم, وكان شيخنا يعوَّل على الشيخ في مسائل عدة في القضاء, وردت ثلة منها في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم, ثم طلب المعافاة من القضاء, فنقله الشيخ مدرسًا في كلية الشريعة, فبقي فيها ثلاثة عقود تخرج عليه كثير من طلبة العلم, ثم تقاعد سنة 1410, ورشَّحه الشيخ ابن باز مفتيًا في دار الإفتاء, فقام بالفتوى أكثر من عشرين عامًا, فكان عمله في التدريس والقضاء والفتوى نحوًا من خمسة وخمسين عامًا. وممَّا عُرف به الشيخ - رحمه الله - السكينة والوقار, وعليه سمت السلف, وكان ذا لهَج بالتسبيح والاستغفار, وكنت أسمعه قبل بدء الدرس حال قراءة الطالب يذكر الله, ويثني عليه بمحامده, ويستغفر بصوت خفيض, وكان لا يرتضي الاسترسال في الكلام الذي هو مظنة اللغو, وشهدتُه في مجالسه العلمية يحوطها عن أن يحفَّ بها شيء من ذلك؛ ولذا كانت مجالسه العلمية مباركة قلَّ أن اشتغل بها أحد إلا نفعه الله. وأما طريقته في الفتوى, فكان ذا ثَبَت لها, ويعظِّم شأنها, ويحتاط لنفسه وللسائل في موافقة الدليل, وكان حسن الاستماع, وربما استفصل من السائل, فإن ظهر له الصواب أفتى وإلا أحجم, وكان دائم الاستشهاد بفتاوى شيخه الشيخ ابن باز, ويعتضد بفتاوى اللجنة الدائمة, ولاسيما فيما هو من نوازل العصر, مما اختلفت في الآراء, ولا يرتضي الشغب في الفتوى أو طرح الأقوال الشاذة والمهجورة, ويرى أنَّ الولوج في قُحَم الفتوى وتحمل التَّبِعة ممن لم تُسند إليه مما ينافي الورع, ويُناهض طلب المعافاة, وهو داءُ كثيرٍ من المتعالمين في هذا العصر, فإلى الله المشتكى! وكان الشيخ من حفظة القرآن, وله ورد يومي في ليله ونهاره, وكانت قراءته عجبًا, فقد سهَّل الله عليه التلاوة, ومن عادته أنَّه إذا أظلَّه شهر رمضان كفَّ عن عمله, ولزم القرآن فلا يشتغل بسواه! وكان هديه في التدريس ألّا يكثر الطالب في قراءة الكتب حتى لا يشتِّت ذهنه, وكان يحضُّ على الحفظ, فحين قرأنا عليه في الفقه كتاب المبدع في شرح المقنع, وبلغنا كتاب الفرائض, قال: إنَّ الفرائض باب مهم من أبواب العلم, وهي تُنسى, فلا بدَّ من حفظ متن فيها, فألزمنا حفظ الرحَبية, فكان يسمٍّع لنا, وفي آخر الدرس يلقي مسائل لحلِّها, وكان الشيخ يحضِّر لدروسه ويراجع ما أشكل, وهو في الفقه ضليع متقن, أدركته يذكر عبارة صاحب الزاد, وأحيانًا يسوق عبارة البُهُوتي, من شرحه على زاد المستقنع, فضلاً عن تحريره المذهب في مسائل الخلاف. وكان يعتني بطلابه, ويوصيهم بحفظ الوقت ومبادرة الشباب, وإذا كنَّا قُبالة إجازة أوصى بالإفادة منها, وألا يكون وقت طالب العلم فيها سبَهللاً. وكان مع سعة علمه وفقهه ذا عقل كبير, ومن سمع كلامه وتوجيهه رأى حكمة الشيوخ ممن عركَتهم الحياة, ومن أشهر الخِلال التي عُرف بها الشيخ: خشية الله وتعظيم حرماته, يعرف ذلك من جالسه, وهي من مقامات اليقين, قال الإمام أحمد: رأس العلم خشية الله, وحسبك بها منقبة! كان الشيخ رقيق القلب أسيفًا, يُواري حزنه بينه وبين ربه, أصيب بأخَرة من حياته بوفاة شقيقَيْه الشيخ سعد والشيخ حمد, وقبلهما أخت شقيقة له فاحتسب, وحين مات إمام مسجده الشيخ الناسك عبد الله بن إبراهيم الخُميِّس, وكان إلفًا له, أمضَّه ذلك ورأيت الحزن ناقعًا في وجهه أيامًا. وكان يحبُّ الشعر ويرتاح له ويرقُّ لمواعظه, وممَّا قرأتُ عليه قصيدةً من مقامات الحريري وهي من المقامة الخمسين البصرية ومطلعها: خلِّ ادكار الأربُعِ والمعهد المرتَبعِ والظاعن المودِّع وعدِّ عنه ودعِ واندب زمانًا سلفا سوَّدتَ فيه الصُحُفا ولم تزل معتكِفًا على القبيح الشَّنِعِ حتى أتممتُها, فاستجاد معانيها, وأردف قائلاً: سمعتُها تُقرأ على شيخنا الشيخ القاضي عبد الرحمن ابن حسن في حريملاء أيام الطلب. قلتَ: وهذه القصيدة مشتهرة عند العلماء بتوبة الحريري, قُرئت على الشيخ محمد بن إبراهيم, وعلى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي, سمعتُ ذلك من الشيخ عبد الله بن عقيل. ولتكون هذه المقالة نافعة أختمها بشيءٍ من طارف ما بين يديَّ ممَّا سمعتُه منه من أماليه حال القراءة عليه في أبواب العلم والسلوك الدَّالة على فقهه ورسوخه: - قال عند قول الله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}: إنَّ هذه الآية على وجَازتها جمعت الاعتقاد والعمل, فقوله: {فَلَا صَدَّقَ} دليل الاعتقاد, وقوله: {وَلَا صَلَّى} دليل العمل. - يرى أنَّ زكاة الخارج من الأرض زيدت عن زكاة النقدين - والله أعلم - لأنَّ الخارج من الأرض يراه الناس, فتطلَّع النفوس إليه, خلافًا للمال المخزون. - مصطلح (الفلوس) في كلام الفقهاء يُراد به: كلُّ نقدٍ ليس بذهب ولا فضة, كالريال المعدني والريال الورقي. - وكذلك مصطلح (التَنضِيض) في كلام الفقهاء يُراد به: التصفية, ويُراد به أيضًا تحويل شيء إلى آخر. - عقود الناس متى أمكن حملها على الصحة, فهو أولى من حملها على الفساد, لأنَّه به تصحُّ معاملات الناس فيما بينهم, وترتفع الخصومات. - (المثلِي) في كلام الفقهاء يُراد به: كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يحلُّ السَلَم فيه, كالتمر والبُّر, خلافًا للقِيمِي, فالعبرة فيه القيمة؛ لأنَّه لا يوجد لها مثيل في العين, مثل: بهيمة الأنعام, في اختلاف عينها. - إذا اختلف المستأجر والمؤجِّر في شيء يرجعان إلى الشرط, فإن لم يوجد ثمة شرط, فيرجعان إلى العُرف, لأنَّ المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا, فإن لم يكن عُرف, فالقول قول الغارم مع يمينه. - يُراد بالوكيل في كلام الفقهاء هو من يُعهد إليه في حياة الموكِّل بعمل, وأما الوليّ, فهو من يُقيمه الحاكم, وأما الوصيّ, فهو من يُعهد إليه بعد الموت بعمل, وربما ناب بعضهما عن بعض في كلام بعضهم. ومن فوائده في السلوك: - بذل المال في اتقاء الذَّم ممدوح, وأما بذله ليُحمد فمذموم. - لا تذمُّ الدنيا لذاتها, والاشتغال بها مع صلاح النية عبادة, وأخذها جائز بشرطين, أحدهما: أخذها ممَّا أباحه الله, ووضعها فيما يرضيه. والآخر: ألاّ تشغله عن الآخرة. وما هذه العبارات إلا إشاراتٌ انتزعتها من بعض تعليقاته مما دوَّنته حال القراءة عليه, ولئن كان طواه الموت, فإن في الله عزاءً من كل فائت وخَلَفًا من كل هالك, ومما يُذهب حزازة دكَّت هضاب القلب أثرهُ الحسن, وفتاواه الراسخة, وعلمه المبثوث في طلابه, فطيَّب الله ثراه, وأكرم مثواه.