ودَّعت بريدة شيخ الزهاد (صالح بن عبدالله الرشيد) مساء يوم الأربعاء الموافق التاسع عشر من الشهر السادس، سنة ست وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة. تُوفِّي عن عمر يناهز ستة وثمانين عاماً في منزله بعد أن أدى الراتبة القبلية وصلاة الظهر في مسجده، ثم اتجه إلى منزله بخطى تحفها السكينة خافضاً رأسه بخشوع، داعياً، ومستغفراً، ومسبحاً إلى أن دخل منزله متجهاً لمصلاه لأداء راتبته البعدية التي فاضت روحه الطاهرة بعدها! عُرف أنه لم يسلك إلا طريق الصالحين، مقتفياً آثارهم الإيمانية التي حرص على أدائها صغيراً، واعتاد عليها كبيراً، ساجداً، وقائماً، وراكعاً، وقارئاً لكتاب الله بخشوع، وتدبر في جوف الليل، فائضة عيناه أدمعاً، ابتل منها موقع سجوده، وحرص على استنفار أهل بيته، وإيقاظهم لإحياء آخر الليل في أداء النوافل، وذكر الأوراد، وتلاوة القرآن الكريم. أدَّب نفسه، وأدَّب أهل بيته؛ لأنه يرى أنه أولى بتأديبها من غيره، وإبعادها عما يفسدها بعمل أفاضل الأخلاق، مراقباً الله في السر والعلن لعلمه أنه يطلع عليه، وعالم بأسراره، شاغلاً حياته بزهده عن زخرفها لشعوره براحة يجدها في طاعة الله التي ينظر إليها أكثر من نظرة التاجر إلى الأرباح! إن سيرة شيخنا حافلة منذ أن درس في كتاب بريدة القراءة والكتابة والحساب. وورث العلم والزهد والورع عن والده، ولازم العلماء، وزاحم طلابهم، وواصل تعليمه النظامي، ونال شهادة ثانوية المعهد العلمي بمدينة بريدة، وألّف كتاب «مجموع الفوائد» الذي يضم بين دفتيه الفوائد العلمية التي تقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، وتفرغ لإمامة جامع بريدة الكبير لأكثر من عشرين عاماً، ومن ثم طلب العلم، وتعليمه، وأداء الرقية الشرعية التي أشرع أبواب منزله لاستقبال المرضى الذين يحرصون على تلقيها نفثا على صدورهم. كما أنه صوّام لستة أيام من شوال، وأيام البيض، ويوم الاثنين، ويوم الخميس، ويوم عاشوراء، وتأدية الحج لأكثر من خمسين حجة، وختم القرآن الكريم كل خمسة أيام، وحرص على أداء الصلاة على أرواح الأموات، وتشييع جنائزها، وتعزية أهلها، وحب مخالطة اليتامى، والمساكين، والفقراء، متواضعاً لهم، ومتقرباً إليهم، ومجزلاً العطاء لهم. كما أن لشيخنا الفاضل مكانة علمية عند طلبته الذين وجدوها في خطبه التي يلقيها في جامع بريدة الكبير لأكثر من عشرين عاماً. ووجدوه عابداً، ومتواضعاً، وعفيفاً، ومتعطشاً لطلب العلم وتعليمه. وإن مجلسه مجلس علم في حله وترحاله، وحرص على وحدة الأمة، وخطر فرقتها، وعدم خروجها على ولي أمرها. إنَّ مشهد جنازته مشهد عظيم، ومن الصعب تصوره؛ وذلك لامتلاء الساحات التي تقع فيها غرفة غسيل الأموات من الذين حضروا التشييع منها إلى غرفة الجنائز لأداء الصلاة على روحه الطاهرة. كما امتلأت أفنية الجامع، وجنباته، وساحاته من المصلين الذين شيعوه على أكتافهم، تحملهم أقدامهم إلى المقابر التي ازدحمت طرقها، وضاقت مداخلها، وحشدت ساحاتها من الذين حضروا من بريدة، ومحافظات المنطقة ومراكزها، وهم خلف جنازته يتحدث كل واحد مع الآخر عن محاسنه التي ملأت أفواههم! هذا، وتقدم المصلين سمو أمير المنطقة الذي حرص على الحضور لأداء صلاة الجنازة؛ وذلك لمكانة صاحبها العلمية، وتعزية أبنائه، وإخوانه، وأحفاده، أن يعظم الله أجرهم، ويلهمهم الصبر والسلوان، وأن يثبت فقيدهم في المسألة، وأن يغفر له، ويوسع مدخله. {إنا له وإنا إليه راجعون} .