أشارت إلى ولدها أن يضع بقايا طعام الأرز في وعاء على سطح الدار، لعل حماما يأتي يأكل منه... استمرت على ذلك سنوات ذاك ديدنها وهذه أغلى أمانيها.... وكان لها ما تمنت.... عدد من حمام الحرم وغيره يأتي يوميا إلى سطح الدار فيجد بقايا الطعام فيلتقط الأرز فيغادر بسلام.... وبعد سنوات من هذه العادة الحسنة تغادر هذه الإنسانة الطيبة دنيانا إلى دار أرحب من دارنا.... ودار أبقى من دارنا.... لقد غادرت إلى دار القرار.... تلكم هي أمي الغالية - رحمها الله - التي غادرت دنيانا بلا تعبٍ ولا صخب قبل أسابيع.... وأحسن الله خاتمتها بأن توفاها بين يدي أحد أبنائها البررة.... حيث كانت دائما ما تدعو بهذا الدعاء (اللهم على توبة وشهادة وحضرة مسلمين) أي إذا حانت وفاتها.... كما كان من دعائها - رحمها الله - (اللهم إني أسألك حسن الخاتمة).... لقد كانت تحب زوجها.... وتحب أبنائها.... وتحب بناتها.... وتحب أحفادها.... وتحب جيرانها.... كانت تجمع أحفادها وتحكي لهم شيئا من حياتها كيف كانت.... وتقول لهم (حتى إذا كبرتوا تقولون كانت جدتي تحكي لنا كذا وكذا).... كانت تفرح كثيرا في آخر سنواتها إذا أتيت لأزورها ولا تسمح لي بأن ألبي دعوة أحدا من أقربائنا أو جيراننا.... كانت تريد أن تستحوذ علي لتشبع فؤادها بقربي منها.... كانت تحادثني وتروي لي جزءا من حياتها الصعبة التي عاشتها هي ووالدي - رحمهما الله - وبعضا من الأشعار التي كانت ترويها لصويحباتها في مناسبات الأعراس.... هنيئا لك يا أماه.... فلقد حنّ الحمام إلى طعامك فزارنا اليوم الثاني من وفاتك - بعد طول غياب - يبحث عن الطعام.... يبحث عن الأمان.... يبحث عن السلام.... فاستلم الأمانة ابنك البار محمد.... ووضع الطعام والماء للحمام.... وأخذ يتعهده كل يوم بالتمام.... لعل زيارتها ياأماه رحمة.... وخير.... وبركة.... وزيادة في الأجر.... قال عليه الصلاة والسلام (في كل نفسٍ رطبة أجر).... وداعا يا أماه.... أيتها الأم الحنونة.... الغالية.... الديّنة.... الصيّنة.... صاحبة السمعة الطيبة.... والكلام الموزون.... وعزاؤنا في سجادةٍ كنت تصلين عليها.... ومسبحةً كنت تسبحين بها.... وعطرا كنت تتطيبين به وتهدين شيئا منه لزوارك.... سلامٌ عليك فذكرك باقٍ نفحة منه ما مات رحم الله والدتي ووالدي وجمعنا بهما في فسيح الجنات إنه وليّ ذلك والقادر عليه.