قبل عدة سنوات كنت موفداً للتدريس في جمهورية الهند، هناك رأيت فوارق كبيرة بين تعليمنا وتعليمهم، خاصة التعليم الخاص، حيث يعتبر التعليم أولوية قصوى لكل رب أسرة بغض النظر عن غناه أو فقره، وبغض النظر عن مكانته الاجتماعية أو درجته العلمية، فالفقير غير المتعلم مهتم تماما بتعليم ذريته كالبروفيسور الغني. كنت أنظر بإجلال لهذا الوعي لديهم، وأتأمل في أسباب هذا الاهتمام المتنوعة، ولا أفيق من التأمل في الأسباب إلا على منجزٍ تعليمي هندي جديد. وفي أثناء تلك الأيام جاء خبر الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وفقه الله لدولة الهند. جاء الخبر وجاء معه سيل من التحليلات السياسية لأبعاد تلك الزيارة وأهدافها ومردوداتها، حتى أصبحت حديث الإعلام العالمي عامة وإعلام البلدين خاصة. كانت الأسئلة تطرح عن مكاسبنا التي سنعود بها سياسياً واقتصادياً وطبياً، طرحت هذه المحاور وتم التركيز على الجانب السياسي كون الزائر قامة بقدر قامة سلمان بن عبدالعزيز، أما اقتصادياً فلكون المزور هي دولة تمثل إحدى أفضل خمس دول ناشئة في الاقتصاد العالمي، وأما طبياً فلكون الهند من أكبر الدول التي تقدم خدمات كوادرها الطبية في المملكة خاصة وفي الخليج عامة. كنا نتحدث في المدرسة السعودية في نيودلهي كما يتحدث غيرنا، ثم نقطع الحديث لنقول وما دخلنا في السياسة والاقتصاد والطب فله أهله وهناك من يدير دفته، لم يبق لنا ما نتحدث عنه إلا سلمان بن عبدالعزيز، نتحدث عن أمير الرياض - تلك العاصمة - التي يتحدث العالم عنها، نتحدث عن سلمان القائد الحازم، نتحدث عن سلمان المهتم بالتأريخ، نتحدث عن سلمان القارئ للكتب، وفجأة بلا مقدمات قال أحدنا: (تخيلوا يزورنا الأمير سلمان في المدرسة). ما بين معجب بهذه الفكرة ومستبعد لها كانت النقاشات، فلا وقت فائض يكفي ولا نعلم كثيراً عن السياسة وبروتوكولاتها، ثم ما الذي يستدعي أن يزور المدرسة رجل جاء ليمثل المملكة في زيارة رسمية ذات أهداف واضحة ومقاصد محددة. كانت المفاجأة أن الفكرة طرحت على سعادة السفير فيصل بن طراد ومنه وصلت للمختصين بالزيارة وتقرر أن يزورنا سلمان الخير. فرحة عارمة اجتاحت المدرسة ومنسوبيها، وانطلقت الأفكار والترتيبات والخطط والبرامج وتحول الفريق إلى خلية نحل، وبالفعل نجح الأستاذ محمد الخليفي مدير المدرسة في قيادة فريق العمل لإعداد حفل مصغر لتلك الزيارة الكبيرة. وعاد ضجيج الأحاديث مرة أخرى، من سيقابل رمز الوفاء؟ وما الذي سنقوله له من همومنا؟ أي فصولنا سيزور؟ ما الذي سيقوله لنا؟ جاءت الزيارة بعد أن تشبعنا شوقاً وانتظاراً لها، ها هو خادم الحرمين الشريفين على بوابة المدرسة وكأني والله لا أصدق عيني أني أراه، جاء ولم يترك أحداً في المدرسة إلا وألقى عليه التحية، تشرفنا جميعاً (معلمي المدرسة) وعددا من طلاب المدرسة بالسلام عليه ومصافحته، ثم جلس مع مدير المدرسة وتحدث معه عن همومنا وآمالنا التعليمية وطلب أن تكون المدرسة موطناً للإبداع، ثم زار الروضة ولاطف الأبناء وكان له موقف أبوي حانٍ مع ولدي سيكون بحول الله موضوع مقال لاحق، ثم زار معرض (الرجل الآلي) وقال كلمته الشهيرة التي تصدرت الصحف في وقتها (أتمنى أن أراكم مخترعين)، ثم صعد لزيارة أحد الفصول التي كنت فيها وتحدث معي ومع الطلاب بعفوية الأب وحرصه فأوصى بالجد والاجتهاد. خرج رمز الوفاء من المدرسة ليستكمل زيارته ومهمته الكبيرة، بعد أن اطمأن على المكان الذي سيخرج القادة في كل المجالات لوطن العطاء. ما بين كلمتنا (تخيلوا يزورنا الأمير سلمان) وكلمته (أتمنى أن أراكم مخترعين)، ما بينهما عدة رسائل ودروس تحتاج أن نتأملها. فأولها: أن قضيتنا التعليمية هي إحدى أولويات خادم الحرمين الشريفين، كيف لا وهو قد استقطع جزءًا من زيارة رسمية وضحى بشيء من وقت راحته ليزور المدرسة، لذلك لم استغرب أبدا دمج وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم، و لم استغرب أن يأتي مهندس مهتم بالتعليم ومؤلف عن التعليم ليقود هذه الوزارة الوليدة فمن يعرف القائد سلمان يعرف أنه يبحث عمن يحمل الهم لأكبر همومنا وآمالنا قبل أن يحمل التخصص. وثانيها: أن مليكنا المفدى لديه تصور عما يجب أن يكون عليه التعليم فإن لم نكن مخترعين فلا حاجة لنا أن نستجدي اختراعات الآخرين لذلك قالها للطلاب صريحة واضحة (أتمنى أن أراكم مخترعين)، بهذه البساطة وبلا تعقيدات كان التصور، تعليمنا يجب أن يقودنا لأن نكون مخترعين وإلا فلسنا على المسار الصحيح. ثالثة الأثافي من هذه الدروس: أن مليكنا يعتني بالتفاصيل التعليمية بالرغم من المهمة الكبيرة التي جاء من أجلها إلا أنه لم يطلب أن يزوره وفد يمثل المدرسة في مقر إقامته بل هو - وهو الكبير قدراً ومكانة - هو من زار المدرسة وقابل جميع معلميها وتحدث مع طلابها من الروضة إلى الثانوي، كما زار الفصول واطلع على سير العمل، نصح ووجّه وتحدث وسأل. هنيئاً للوطن وتعليمه هذا التشريف والمكانة التي بدت معالمها من حزمة القرارات الملكية التي صدرت لتبني حقبة تعليمية تاريخية جديدة، ترسم خارطة الطريق لتتبوأ المملكة مكانتها التعليمية اللائقة بها.