كنت في سفر وإذا برسالة جوالية تصلني تحمل خبراً مؤلماً: ((انتقل إلى رحمة الله د/ محمد المعجل وهو في رحلة عمل لحضور مؤتمر طبي في فيينا)) رحمه الله، ألقيت ((الجوال)) جانباً: واستغرقت برحلة تأمل وألم. أما التألم فهو التفكر في ((سيف الموت)) الذي أتى وسيأتي بموعد محدد لا يخلفه {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف 34) إن رحيل أي امرئ هو رسالة لنا أن الحياة الدنيا ما هي إلا دار فناء. أما ((جانب الألم)) فقد رحلت إلى ((ماض)) قريب عندما كان د/ محمد المعجل غفر الله له يرؤسنا بلجنة أصدقاء المرضى بمنطقة الرياض على مدى يقارب سبع سنوات مع نخبة فضلاء من محبي الخير لأجل هدف نبيل وهو خدمة المرضى وتبنّي شكاويهم، وتقديم الخدمات الاجتماعية والمادية التي لا توفرها المستشفيات.. لقد كان يدور في اجتماعات اللجنة نقد شديد فيما يتعلق بشكاوى المرضى ونقص الإمكانات بالمستشفيات من أسرة وأدوية وكان د/ المعجل وهو مدير عام الشؤون الصحية بالرياض - لا يدافع ولا يكتفي بالتأييد فقط بل كان يتقبل ذلك بشكل جميل، وكان أول ما يأتي محضر الاجتماع أول من يوقع عليه رغم النقد القاسي لمستشفيات الرياض وخدماتها بل أقول: إنه يفرح به من منطلق أنه ويضمّن المحضر بالخطابات التي يرفعها لوزارة الصحة بطلبات الشؤون الصحية ومستشفياتها. كان -غفر الله له- مخلصاً في عمله.. أميناً بأداء رسالته : كان همه ((المريض)) لا الكرسي سواء بقي فيه أو رحل عنه. د/ محمد المعجل إنسان بكل دلالات هذه الكلمة وفضاءاتها سواء على المستوى الشخصي حيث يتعامل مع الناس بتلقائية ويحفظ الود لأصدقائه. وهو على المستوى العملي إنسان بأداء رسالته الطبية وتعامله قريب من مراجعيه يتحدث معهم بلهجته الحائلية المحببة دون أن يضع بينه وبينهم حواجز.. إنه من جيل أولئك الأطباء النادرين الذي كانوا نواة الأطباء المبتعثين في الوطن. آمن وجيله أن الطب رسالة قبل أن يكون تجارة وأمانة قبل أن يكون ربحاً وخسارة.. رحمه الله وحفظ من بقي من جيله ورحم من غادر إلى جوار ربه. كان رحمه الله يعمل بصمت وتفانٍ عجيب، أفادني صديق عمره ورفيق درب عمله الدكتور الفاضل محمد المفرح أن الراحل د/ المعجل كان خلال عمله مديراً عاماً للشؤون الصحية بمنطقة الرياض يسافر تقريباً نهاية كل أسبوع -وقت راحته- إلى إحدى المحافظات أو القرى ويزور مستشفياتها ومراكز الرعاية الصحية فيها وكان لا أحد يعلم بذلك فلا إعلام ولا أضواء.. فعلاً زيارات مفاجئة، وكان يصطحب معه بعض المسؤولين بالشؤون الصحية، ويسجل الملاحظات وأوجه النقص، وكان في أغلب الزيارات لا يعلم أحد من مسؤولي المحافظة أو القرية إلا عندما يعود إلى الرياض ويكتب أو يتصل بمدير المستشفى بتلك المحافظة ومدير المركز الصحي بتلك القرية وكان - كما يقول د/ المفرح - لا يأخذ مقابل انتداب على هذه الزيارات في أغلب المرات حيث يراها جزءاً من عمله.. وكان يتبنى إقامة المستشفيات بالمحافظات المحتاجة إلى الخدمات الصحية.. وكان يناضل ويتابع مع مسؤولي وزارة الصحة ووزارة المالية لاعتماد المبالغ اللازمة رغم أن الإمكانات المالية لم تكن بتلك الوفرة.. وكان ينجح في ذلك ومن ضمن المستشفيات التي تم بناؤها وافتتاحها خلال إدارته للشؤون الصحية: مستشفى حوطة بني تميم وغيرها. لقد خسر الوطن إدارياً مخلصاً، وطبيباً ناجحاً، وإنساناً فاضلاً.. وما أعظم خسارة الأوطان بفقد أمثال هؤلاء الرجال. أسأل الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يجزيه خير الجزاء كفاء اضطلاعه برسالته الطبية الإنسانية على أنصع وجه، كما أسأله أن يوفق أبناءه وبناته وحرمه لإبقاء ذكره العاطر، ليظل نهر الدعاء له جارياً كما جرت سنوات عمره عطاء وإخلاصاً.. رحمه الله وجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. و: وقفة تأمل ((تبارك الله نجري كلّنا زمرا نحو المنون ويبقى الواحد الصمد))