أكدت أكاديميتان على البعد الإنساني والاجتماعي لفريضة الحج التي يلتقي فيها أكثر من مليوني مسلم في مشهد يتكرر كل عام في زمان ومكان محددين يلبون قول الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ... الآية} تتمثل في تربية الإنسان المسلم على تعظيم حرمات الله - عزّ وجلّ -، ومعرفة حق المشاعر المقدسة، كما تربي الحاج على أن يحسن التعامل مع إخوانه، وأن يتخلق معهم بالأخلاق الحسنة، ويحسن معايشتهم، كما يتحقق في الحج التعارف والتآلف، وتوثيق العلاقات وإقامة الصلات بين المسلمين والتشاور فيما بينهم، والتعرف على المشكلات في كل بلاد الإسلام والعمل على حلها والسعي من أجل سعادة المسلمين وصلاح أحوالهم. واستعرضت الدكتورة البندري بنت عبدالله الجليل، أستاذ الفقه المساعد بكلية الآداب بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، والدكتورة فوز بنت محمد أحمد الصالح، وكيلة كلية المجتمع بمحافظة حريملاء أستاذ الحديث وعلومه المشارك بجامعة شقراء - في حديثين لهما - جانباً من الأبعاد الإنسانية والاجتماعية للحج على المسلم والمسلمة عند أداء المناسك وبعدها. مظاهر ومعانٍ تقول الدكتورة البندري الجليل: لا يخفى على كل مسلم ومسلمة أن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض على من استطاع إليه سبيلاً، وهو من العبادات العظيمة التي لها آثار كبيرة على الفرد والمجتمع، ويتحقق فيه من المظاهر والمعاني ما لا يوجد في غيره من العبادات. هذه الفريضة التي يجتمع لأدائها أكثر من مليوني مسلم ومسلمة كل عام في أماكن محددة، وفي أيام معدودات، كما قال الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}، والحج فريضة عظيمة، يفّرغ فيها المسلم ما يحمله من ذنوب وأخطاء، ليجد الراحة النفسية والطاقة الإيمانية، بعد أداء فريضة الحج، وكأنه ولد من جديد، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه». رواه البخاري ومسلم. وتضيف قائلة: إن للحج أبعاداً إنسانية واجتماعية تتمثل في تربية الإنسان المسلم على تعظيم حرمات الله - عزّ وجلّ -، ومعرفة حق المشاعر المقدسة، فلا يعتدي على حيوان ولا طائر ولا نبات، فهو مطالب شرعاً بالإحسان إلى جميع المخلوقات، فتكون سلوكياته مثالية وعلاقاته بالآخرين مهذبة، وتصرفاته منضبطة، وبالتالي تحسن العلاقة بينه وبين كل ما يحيط به، وهذا فيه بُعد تربوي إنساني لمن يؤدي فريضة الحج، فتلك الفريضة تربي المسلم على حسن التعامل مع إخوانه الحجاج الذين تربطه بهم رابطة الأخوة الإيمانية المتمثلة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وفي هذا بُعد إنساني أخلاقي يفرض على الحاج أن يحسن التعامل مع إخوانه، وأن يتخلق معهم بالأخلاق الحسنة ويحسن معايشتهم، ويتحمل ما قد يحصل منهم من أخطاء في حدود وضوابط الأخوة الإيمانية التي جمعتهم في هذه البقاع الطاهرة ضيوفاً للرحمن، يطلبون مغفرته، ويرجون رحمته، ويتحقق هذا التعايش بالالتزام بالنظام والانضباط السلوكي والبعد عن الفوضى، والمشاركة الفردية والجماعية في التنظيم، والتوعية الصحيحة التي تكفل أداء الحج بشكل صحيح. أما البعد الاجتماعي لفريضة الحج فيتمثل في التعارف، وبناء العلاقات الاجتماعية السليمة مع مختلف فئات المجتمع الذين أتوا لأداء فريضة الحج، والتي تقوم على أساس التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} حيث لا فرق بين الإنسان وأخيه الإنسان إلا بالتقوى، فالناس في الحج سواسية في لباسهم وشعائرهم وأعمالهم وقبلتهم، كما إن الحج ينمي الوعي ويربي المسلم معنوياً وحسياً، ويمنحه سلوكاً اجتماعياً رفيعاً، وبذلك يكتسب العديد من الأصدقاء والمعارف من جميع الأقطار، يتبادلون المحبة، والمصالح فيما بينهم. وهذا فيه بعد اجتماعي يتحقق فيه انتماء الفرد المسلم إلى مجتمعه الإسلامي الذي يعيش فيه. وهذه الصفات والأبعاد وإن كانت شعار المسلمين في كل زمان ومكان، إلا أنها في الحج أكثر ظهوراً وإلزاماً. القيم الإسلامية وتؤكد الدكتورة فوز الصالح أن الإسلام ربى الأفراد على إنشاء علاقات اجتماعية سليمة وأن تكون هذه العلاقات أساسها التعاون والتكافل والتراحم، فصلاة الجماعة والجمع والأعياد تُكوِّن علاقات إخاء ومودة بين أفراد المسلمين، وتنشئ المسلم منذ نعومة أظفاره على التراحم والتعاطف والمودة، فالصلاة تبني علاقة المسلم بربه وتصله بأخوته وتجعل من المسلمين صفوفاً متراصة سواسية كأسنان المشط. وإذا كان هذا الهدف النبيل يتحقق من خلال أداء الصلاة جماعة، فإن الحج أوسع دائرة في التعارف وأكثر اتساعاً في بناء العلاقات لأنها علاقة أمم وشعوب جاءت من بلاد شتى، ومن كل فج عميق، فهو مؤتمر عالمي يقام في أقدس بقعة على وجه الأرض في رحاب أول بيت وضع للناس، وهو بيت الله العتيق، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فترديد الحجيج «لبيك اللهم لبيك» شهادة على النفس أنها تجردت من زخرف الدنيا والتزمت طاعة الله والامتثال لأوامره وكان استقبالهم للكعبة مظهر وحدة أمة الإيمان، وكانت بداية طوافهم حولها عند الحجر الأسود بيعة لرب الأرض والسماء على الإيمان به والوفاء بعهده، وإتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وإن هذا الاجتماع العام في الحج من أهدافه التعارف والتآلف وتوثيق العلاقات وإقامة الصلات بين المسلمين والتشاور فيما بينهم، والتعرف على المشكلات في كل بلاد الإسلام والعمل على حلها والسعي من أجل سعادة المسلمين وصلاح أحوالهم، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، فهم يجمعون بين الاستجابة لله وإقامة الصلاة والتشاور والتكافل الاجتماعي والبذل في سبيل الله والانتصار للحق، بعبارة أخرى يجمعون بين قوة الصلة بالله وقوة الترابط الاجتماعي وقوة يدفعون بها عدواً ظالماً. وتشير إلى أن القيم الإسلامية والمثل العليا التي يحققها المؤتمر العام في الحج وما يتجلى فيها من طهر وشرف وسمو هدف ونبل غاية، لهي أقوى حافز للقاء المسلم بإخوته ملبياً دعوة أبي الأنبياء التي تولى الله جلّ وعلا إبلاغها للناس {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}. فتأتي هذه التلبية في خشوع وإنابة لينال شرف القرب من ربه فيشرف قلبه بالصفاء والرضا بالخير والمحبة، فتنمو فيه نوازع الطهر بعيداً عن أنانية النفس والماديات واتباع الهوى، فيسمو في نقاء وروعة. وحتى يتحقق لهذا اللقاء ثمرته التي تعين المسلم على أن يتحرر من كل زيف يخفيه أو ملبس يغطيه أو منزلة يختال بها على المسلمين الذين أتوا ملبين مهللين مكبرين استجابة لربهم والتماسًا لمرضاته، كان التجرد من كل الملابس المعتادة، حيث يرتدي المسلم لباساً خاصاً متميزاً في هيئته ولونه، ليكون الجميع عباد الله دون أن يكون تفاخرًا بمكانة أو ترفع بمنزلة أو تسامٍ بنسب، فكل عباد الله قد تجردوا من الماديات، ولم يبق لهم إلا ما يتحلون به من نقاء وطهر وفضيلة وتنافس في مرضاة الله جل وعلا ليكونوا جميعا في حرم الله يمثلون عباد الله البعيدين عن الزيف واللغو والغلو، كلهم في ضيافة الله قد صلحت نياتهم وبنوا عقيدتهم على أساس من العقيدة الصحيحة السليمة والسلوك الإسلامي النظيف، فكانوا لله كما خلقهم الله وصار كل واحد منهم أخاً لكل مسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ويتمثل في نفسه وخاطره قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وقول المصطفى - عليه الصلاة والسلام -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه عليه السلام». الحج وحدة كاملة وتوضح الدكتورة فوز الصالح أن الحج يمثل بحق هجرة إلى الله من كل شواغل الحياة ومغرياتها وكل مادياتها، وهو لذلك يترك الحاج الرفث واللغو والفسوق والجدال، كما يتعين عليه البعد عن كل ذنب أو إثم أو عدوان، وكل حاج هو مهاجر إلى الله ويمثل مسلماً قد تخلى عن كل ما في قلبه ونفسه وجسده من تعلق بالحياة المادية وأوضارها وعمل على تهيئة نفسه وقلبه لتلقي النفحة الإلهية بكل ما فيها من صدق وروحانية وتجلي، كما أن هذا الحاج يمثل مع بقية الحجاج وحدة متكاملة ينصهرون في بوتقة واحدة ويعيشون لحظات السعادة يتلاقون يلبون ويهللون، هتافهم واحد، ولباسهم واحد، ووجهتهم واحدة، وإفاضتهم واحدة، إنها وحدة فريدة صاغتها فريضة الحج في أبهى صورها وأقواها وأكثرها رسوخاً وقدرة على البقاء، وحدة أرادها الله وباهى بها الملائكة، يقول الله تبارك وتعالى عندما يلتقي الحجيج على صعيد عرفات للملائكة: «انظروا إلى عبادي وقد أتوني شعثاً غبراً أشهدكم أني قد غفرت لهم»، فيحمله هذا على أن يلتقي كل أفراد المجتمع المسلم في هذه البقاع الطاهرة بكل الحب والرضا والإيثار، ولهذا ترى اللغات تتحول إلى لغة واحدة هي لغة القرب من الله ومناجاته والتماس رضاه، إنها لغات تلتقي في لغة، وأجناس تتحدد في جنس، وشعوب تلتقي وتتحد وتتوجه إلى بارئها، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، فتتحد المشاعر والقلوب كما تتحد اللغات والأجناس في تلاقي كل أبناء الإسلام في مدينة الإسلام والسلام، وأي وحدة أقوى من هذه الوحدة وأنقى وأتقى؟ إنه الحج الذي ألف الله به وحدة القلوب والمشاعر، كما وحد به بين اللغات والشعوب والأهداف والغايات. فالحج وحدة كاملة في المشاعر والتآلف والحب والقرب من الله وصفاء القلوب. ولهذا كله جعل الإسلام لقاء المسلمين في البلد الحرام في الشهر الحرام العيد الأكبر والمؤتمر الأعظم، فجاءت مشروعية الحج بعد فتح مكة تتويجا لسائر العبادات والفرائض. وتشير الدكتورة فوز الصالح إلى أن أبرز لقاءات الأمة في الحج هو ما كان على صعيد عرفات ثم في منى يوم الحج الأكبر، وهذا اليوم من أبرز الأيام أثراً ليمثل وحدة في منتهى الروعة والجلال والجمال، وحدة تمثل أسمى القيم وأرقى المثل، وحدة تذكر المسلم بأصله ونشأته «كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، حيث تبدو الأمة الإسلامية كلها مجتمعة ممثلة فيمن حضر موسم الحج منهم. فهم يلتقون في أقدس مكان وأشرف بقعة، ولقاؤهم هذا يتم في صفاء وطهر، يتجهون إلى المولى جلّ وعلا في خشوع وخضوع بأبصار خاشعة وقلوب وجلة، يلتقون على حب الله والتماس مرضاته والفوز بجوائزه، فيشهدوا منافع لهم ويكون تعارفهم وتآلفهم ودراسة قضاياهم ومشكلاتهم والعمل على وضع حلول لهذه القضايا والمشكلات. ولا ريب أن من أعظم المنافع رؤية المشاعر وزيارة المقدسات وأداء المناسك على أكمل وجه، واجتماع المسلمين على حال من الصلاح والاستقامة والتقوى والتجرد والصدق والإخلاص، الأمر الذي يحقق الألفة والترابط والتعاون، وليتجهوا إلى ذكر الله كذكرهم آبائهم أو أشد ذكراً ويشكروه على ما أعطاهم وأولاهم وليتقربوا إليه بشتى أنواع القرب، كما أن الحج موسم وميدان للأخوة النبيلة التي تألف وتؤلف وتبني الود وتقيم الإخاء وتنتصر لله جلّ وعلا وتعمل على تحقيق المبادئ السامية والقيم الرفيعة والمثل العليا. وخلصت إلى القول: إن أداء مناسك الحج بصدق وإخلاص على هدي كتاب الله العزيز وسنة نبيه الكريم تخلق في نفس من أداها مقومات الشخصية المثالية لأنها تأخذه للتوبة النصوح والتطهر من المظالم والآثام، وتجعل المسلم يتعلم من الرحلة إلى الحج تلبية لأمر الله وإخلاصاً في العبادة له. كما يتعلم المسلم من هذا المؤتمر العالمي الكبير كيف ينسجم مع إخوانه المسلمين، كما يتعلم ويتعود بسط اليد في النفقة والإحسان إلى ذوي الحاجات منهم. إضافة إلى أن الحج مجال للأمن والسلام والاطمئنان يأمن فيه الحاج على نفسه ومال وعرضه، ولا سيما أن المسلم يجد في الحرم مأوى لا للإنسان فحسب، بل أمناً وسلاماً لكل المخلوقات، الحيوان آمن من صيده، والطير آمن، بل والنباتات والشجر في أمان، وهذا نوع من الأمن لا تعرف الدنيا له مثيلاً في كل بقاع الأرض، وذلك لأن الحجاج والعمار هم وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، وكيف يخشى وهو في حرم الله وفي ضيافته؟ وفي البلد الحرام وحول البيت الحرام وفي الشهر الحرام؟.