وحين نعود إلى الأساليب العربية الأولى سنجد أن استخدام لفظ في غير ما وضع له ليس هو الأسلوب الوحيد الذي قد درج عليه العرب في زمانهم الأول بل هناك أساليب كثيرة ذكرها اللغويون، سواء على مستوى جمع الكلمات وبناها الصرفية، أو على مستوى التركيب وهو الإعراب، أو على المستوى الدلالي، وهي ظواهر لغوية كثيرة سميت مرة بالحمل على المعنى أو حمل صيغة على أخرى كأن يحمل المصدر على الفعل، والتضمين بأن يضمن الفعل معنى فعل آخر، أو العدول بأن يعدل الكاتب أو الشاعر عن أسلوب معروف إلى أسلوب آخر غير متعارف إليه، ويمثل المجاز واحدا من هذه الحالات التي يخرج فيها المتحدث عن الأسلوب المعياري إلى أسلوب غير معياري أو معتاد، ويمكن أن أضرب هنا بالشاهد الذي يتكرر في شواهد النحويين على حذف حرف الجر ويقول فيه الشاعر: ومن يك لم يغرض فإني وناقتي بحجر إلى أهل الحمى غرضان تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني فالأصل لقضى علي كما هو الأسلوب المعتاد لكن الشاعر هنا عدل عنه إلى أسلوب آخر، وليست الضرورة الشعرية، ولا الجهل بأساليب القوم هو الذي دفعه إلى ذلك، وسأستعير توصيفا لغويا بارعا لهذه الظاهرة حين يقول:»فأخرجه لفصاحته وعلمه بجوهر الكلام أحسن مخرج». هذه القراءة للنموذج اللغوي هنا، بالرغم من أنها تعالج ظاهرة لغوية، إلا أنها قراءة جمالية، فقد سعى المبرد إلى الكشف عن الأثر الجمالي لحذف حرف الجر، وهو ما يعني أنه تميز، وليس ضرورة ويمكن أن يتحول إلى فعل بلاغي. بل إن كلام ابن جني عن المجاز يفهم منه أنه في الكلام كثير ويلحق بالحقيقة، ويضرب على ذلك بقوله:»ألا تراك تقول ضربت زيدا ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده»، وهذا مثل ما يسميه البلاغيون بالمجاز المرسل في قوله تعالى «جعلوا أصابعهم في آذانهم»، والعلاقة الكلية باعتبار أنهم إنما وضعوا بعضا من أصابعهم، فما الذي يجعل قولنا ضربت زيدا ليست مجازا علاقتها الجزئية في حين إن «جعلوا أصابعهم» مجاز؟ والسؤال الذي يظهر في هذه الحالة لماذا خصت حالة واحدة من حالات استعمال اللغة في غير ما وضعت له بالتقعيد، والبحث عن السبب العقلي في ربط الكلمتين بعضهما ببعض، وبحث عن المعنى المحذوف/الظني، وربط بها، وعده من البلاغة، في حين لم يؤخذ هذا الجهد أو جزء منه في التقعيد والتفسير أي من هذه الظواهر؟ ثم إن حصر التحول بالعبارة واستعمال لفظة أخرى بالمجاز بوصفه هو الطريق الوحيد لإحلال كلمة دون أخرى يبعث أيضا على التساؤل، ذلك أن المجاز سواء أكان مرسلا أم عقليا أو استعارة، يفرض نوعا من العلاقة المحددة سلفا، فهي لا بد أن تكون المشابهة في الاستعارة، أو العلاقات الأخرى في المجازين الآخرين. في حين أن العلاقات بين الألفاظ المستعملة في الكلام تأتي مختلفة متنوعة، وفي النحو قضية اسمها بدل الغلط، كأن يخطئ المتحدث في الكلام ثم يذكر الكلمة الصحيحة التي يريد أن يقولها، فتأخذ حكم الكلمة الأولى في الإعراب. و هذه المسألة تسترعي النظر من زاويتين: 1- أولا أن الثانية عوض عن الأولى، فالثانية هي الصواب والأولى هي الخطأ، ومع ذلك فإن الثانية هي بدل من الأولى، والبدل فرع عن المبدل منه بمعنى أن المبدل منه أشد أصالة في تركيب الكلمة من الثانية. على أن علاقة المشابهة التي يذكرها البلاغيون في الاستعارة ليست القول الفصل أو الرؤية الوحيدة في علاقة المستعار بالمستعار منه، ذلك أن المشبه والمشبه به قد اشتركا في وجه الشبه الذي يمثل صفة تجمع بينهما. هذا الاتفاق بالصفة يجعل العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص، وليس بالضرورة تشبيها، وإذا أدرك بعض صفاته فقد حق له أن يدرك اسمه ليتناول بعض هذه الصفات، وليس المقصود أنه أصبح نفسه، ولكنه أصبح موافقا له ببعض الصفات،وهو ما تقتضيه المشابهة، فكيف تصح تسميته بالأسد على طريقة التشبيه ولا تصح إذا أدرك بعض الصفات؟ وهذا ينطبق على الفعل «استأسد» أي أصبح أسدا، أو «استأذب» إذا أصبح ذئبا، وهو لم يصبح أسدا على الحقيقة ولا على التشبيه أيضا وإنما لأنه أخذ بعض صفات الأسد، وهي الجرأة والشجاعة أو التقوي، فاشتق من اسم الأسد فعل أسند إلى هذا الفعل على وجه الحقيقة بناء على أنه حاز بعض صفاته، وليس على التشبيه باعتبار أن الفعل «استأسد» لا يعني التحول إلى أسد على وجه الحقيقة وإنما أخذ الصفة على وجه الاحتمال والادعاء. وهذا يدفعنا لتناول الدلالة المعجمية أهي دلالة خاصة محددة أم عامة، فالفعل «هدى»، أو»اهتدى»، يدل على الاسترشاد والوصول الذي قد يكون جزء منه في الفعل «وجد»، ولكنه في الوقت نفسه يحمل إيحاء مضافا إلى معنى الاسترشاد والوصول، لا نجده في الفعل «وجد»، بالرغم أنهما قد يفيدان معنى واحدا. ولا نستطيع أن نتجاهل المعنى الإيحائي عند حديثنا عن «استعمال اللفظ» في غير ما وضع له، أو حتى فيما وضع له مما قد يدخل في فصاحة الكلمة عند البلاغيين، ويفيد معنى إضافيا قد لا تكون له قيمة في السياق، ولكنه يضيف معنى آخر، ويزيد في الإبهام، وإثراء دلالة النص مما يعني أن تحديد المعنى ليس أمرا يسيرا. نجد ذلك في قول أبي تمام: جرى لها الفأل برحا يوم أنقرة إذ غودرت وحشة الساحات والرحب ف «الفأل» ما يجده الإنسان في المظاهر حوله ويشعر أنه ينبئ عن خير له، وقد يكون في الشر، و»برحا» من البارح وهو ما يعترض الإنسان من حيوان ونحوه ويعد شؤما ويمنا أيضا. وهذا يعني أن هذا التركيب «الفأل برحا» لا يبين على وجه التحديد أيقصد منه فأل حسن أم تطير، والبارح لا يقصد منه أيمن أم شؤم، وهو ما يفيد بأن كلمة «البارح» وإن كانت إضافة في اللفظ فإنها لم تفد شيئا في تحديد «الفأل» هل المقصود به هنا الخير أم الشر، بالرغم أن التبريزي بشرحه يذكر أن المقصود هنا هو الشر، ولذا يمكن أن تكون حشوا، ولكنها تعزز المعنى أيا كان، وإذا أخذنا أن البارح هو الشر فإنها تؤكد وجهة نظر التبريزي في دلالة «الفأل» هنا. فهو يرى أنها الشر بناء على ما في نهاية البيت إذ غودرت وحشة الساحات والرحب، فالمدينة قد تهدمت فأصابها فأل قبيح. لكن هذا في الظاهر أم فيما بعد ذلك فإن هذا الخراب الذي حل بالمدينة جاء معه بالخير إذ دخلها الإسلام، وبلغتها شمس الحضارة العربية وتحولت من التخلف إلى المدنية والتقدم. وقد جاء هذا المعنى في قول الشاعر: وحسن منقلب تبدو عواقبه جاءت بشاشته من سوء منقلب وهذا يعني أن «الفأل برحا» ليست في الشر قطعا، وإنما هي في الخير بناء على التفسير الجديد، مما يعني أن الشاعر قد اختار هذا التركيب لأنه يؤدي إلى الاحتمالين، وهو ما يجعل البيت مفتوحا على التفسيرين، كما أنه يجعل نهاية البيت تدل على المعنيين أيضا، وهو أنه تم لها الفأل الحسن حين غودرت وحشة الساحات والرحب. هذا التضاد الذي يحمله صدر البيت وعجزه في الدلالة يتناسب مع مذهب أبي تمام بوجه عام الذي يحب أن يجمع فيه بين النقيضات ويستخرج منها المعنى الفلسفي العميق الذي يربط بينها كما يبدو في هذه القصيدة في قوله مثلا: إن الحمامين من بيض ومن سمر دلو الحياتين من ماء ومن عشب هذا الجمع بين النقيضين في بناء البيت يكشفه احتمال أن يكون الشاعر قد ضم «الفأل» التي هي في الخير لأنها غالبة فيه، إلى «البارح» التي هي غالبة في الشر لينبه السامع إلى أن في البيت لغما دلاليا لا بد أن يكشفه وليس على صورة واحدة. الذي أخلص إليه من هذا النموذج، أن الإيهام، وتعدد التفسير، والفهم هو أمر من طبيعة اللغة والأدبية على وجه التحديد، وهو ليس نتاج ثنائية الحقيقة والمجاز، كما أن هذه الثنائية لا تحل جميع المشاكل التي تنتج عن تداخل الدوال بعضها ببعض من مكوناتها المختلفة، كما لا يحلها أيضا ولا يبسطها «إجراء الاستعارة» المعروف الذي يقصد منه منطقة هذا التعالق، وتقريبه للأذهان.