هي كلمة طالما أبكت العيون وروّعت القلوب، وفرَّقت الأسر ومزَّقت الشمل، يا لها من كلمة صغيرة ولكنها جليلة عظيمة خطيرة، كلمة أبكت عيون الأزواج والزوجات، وروّعت قلوب الأبناء والبنات. إنها كلمة صغيرة الحجم لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترتعد الفرائص بوقعها؛ كلمة تقلب الفرح ترحًا والبسمة غُصّة. إنها كلمة الطَّلاق، وما أدراك ما الطَّلاق. كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، والجحيم والألم الذي لا يطاق. فللَّه كم هدمت من بيوت للمسلمين، وكم قطّعت من أواصر للأرحام والمحبين، وكم فرَّقت من شمل للبنات والبنين. ويا لها من ساعة حزينة، يا لها من ساعة عصيبة أليمة ولحظة أسيفة يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها، وودعت أولادها، وفارقت زوجها ووقفت على باب بيتها، لتُلقي آخر النظرات، على بيت مليء بالذكريات، يا لها من مصيبة عظيمة حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك. الزواج نعمة من نعم الله ومنّة من أجل منن الله، جعله الله آية شاهدة بوحدانيته، دالة على عظمته وألوهيته، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم 21 . فالزواج من آيات الله تعالى، وهذا الزواج لا يكون نعمة حقيقية إلا إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، ولكن ما أن يتنكب الزوجان أو يتنكب واحد منهما عن صراط الله حتَّى تفتح أبواب المشكلات، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزينًا كسيرًا، وتخرج المرأة من بيتها حزينة أليمة مهانة ذليلة، عندها يعظم الشقاق ويكبر الخلاف والنزاع. ولهذا فقد كثُر الطَّلاق اليوم، حتَّى أصبح ظاهرة مخيفة؟! والمتأمل في هذه الظاهرة يجد أن لها أسبابًا كثيرة، يجب على الرجل والمرأة معرفتها حتَّى لا يقع أحدهما في مخالفتها يومًا. ومن تلك الأسباب وله أسباب كثيرة؟ أولاً: سوء اختيار الزوجين لبعضهما الآخر، وبعد فترة من الزواج تنكشف أمور وحقائق، لا حل ولا طريقة ولا مخرج إلا بالطَّلاق. ثانيًا: من الأسباب إثقال كاهل الزوج بالتكاليف مما يجعله لا يتحمل أدنى زلة، وهذا من حكم الإسلام في تيسير المهور قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)) رواه الإمام أحمد. ثالثًا: سوء العشرة بين الزوجين، وعدم قيام كل منهما بما أوجبه الله عليه للآخر، قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وهذه تحتاج إلى وقفة من الزوجين.. فإنَّ هذا من أعظم أسباب الطَّلاق عدم صبر الزوج على زوجته، فاليوم نحن نفتقد الزوج الذي يغفر الزلة ويستر العورة والهنة، ونفتقد الزوج الذي يخاف الله ويتقي الله ويرعى حدود الله ويحفظ العهود والأيام التي خلت والذكريات الجميلة التي مضت. تأمل في هذه القصة روى الحاكم عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو عندي فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية» فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان!! فليكن شعار الرجل يوم أن يَرَى من المرأة زلة، أو هنة، (حسن العهد من الإيمان). وهذا يقودنا لأمر مهم، وهو من أعظم أسباب الشقاق بين الزوجين، وهو عدم معرفة الرجل طبيعة امرأته؟ لأن الرجل إن كان مدركًا لهذه الطّبيعة، وعرف طبيعة المرأة، استطاع التعامل معها على نحو تلك الطّبيعة. وبهذا تقل المشكلات، بل تكاد تنعدم؛ إِذْ إن الملاحظ على بعض الرجال هو أن يتعامل مع المرأة على أنها ند أو خصم، وعليه يفعل ويقول ما يريد من خلاله إثبات رجولته؟!! ومنه الطَّلاق!! جاء في الصحيح ((إن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإنَّ ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: ((وكسرها طلاقها)). هذا توجيه للرجل من أجل أن يدرك طبيعة المرأة، وضعفها الجبليّ، الذي ليس هو عيب لها في الشريعة، بل هو من رحمة هذه الشريعة بهذه المرأة الضعيفة، ذات العاطفة، والحنان. فتأتي الشريعة موجهة للرجل أن يراعي طبيعة المرأة، وأن يحسن لها، وأن يتجاوز عن خللها، وأن يعاشرها بالمعروف: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فإنَّ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أن تَكْرَهُواْ شيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خيرًا كَثِيرًا). وتأمَّل في هذا التَّوجيه النبوي: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم. ومن يتتبّع جاهدًا كلَّ عثرة يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحب ولو أن كل رجل اتبع هذه التوجيهات الربانية لما حصل ما يحصل من المشكلات التي نسمعها اليوم. ومن أهم أسباب دوام العشرة بين الأزواج معرفة الرجل لطبيعة المرأة، فإذا فهم الرجل طبيعة المرأة تعامل معها على طبيعتها. رابعًا: من أعظم أسباب الطَّلاق ما تبثه وسائل الإعلام من مخالفات شرعية ومغالطات واضحة من خلال تمثيليات ساقطة ومسرحيات هابطة تصور مشكلات مفتعلة حول تعدد الزوجات وحول تزويج كبير السن من الصَّغيرة وحول تزويج المتعلمات من غير المُتعلِّمين، فمن سمع أو رأى هذه التمثيليات من النساء، وهن ناقصات عقل ودين زهدت إحداهن في زوجها الذي ترى أن هذه التمثيلية تنطبق عليها وعليه. فضلاً عن رؤية الرجال لنساء جميلات متزينات يظهرن على الشاشة بأبهى المفاتن مما يقلل شأن الزَّوجة في عين زوجها وهو طوال اللَّيل ينظر إلى أجمل منها، فكل هذا من أعظم أسباب الطَّلاق، والسعيد من وعظ بغيره. خامسًا: ومن أسباب الطَّلاق أن بعض الأزواج لا يرعون الذمة، وفقدوا الأخلاق والشيم، فالزوج يأخذها من بيت أبيها عزيزة كريمة ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلة حزينة باكية مطلقة ذليلة. والله يقول: «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان». فالرجل الكريم وإن لم يرع حق المرأة فليراع حق أهلها.. وإذا لم يرغب الرجل بالمرأة فإما أن يمسكها بمعروف أو يطلقها بإحسان.. سادسًا: من أسباب الطَّلاق اليوم حين يستخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وتضيّع الأمانات والمسؤوليات، سهر إلى ساعات متأخرة، وضياع لحقوق الزوجات والأبناء والبنات، يُضحك البعيد ويبكي القريب، يؤنس الغريب ويوحش الحبيب. سابعًا: ومن أسباب الطَّلاق، وهو من أهم الأسباب حينما يتدخّل الآباء والأمَّهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كلِّ صغير وكبير، وفي كلِّ جليل وحقير، والأم تتدخل في شؤون بنتها في كلِّ صغير وكبير، وجليل وحقير، حتَّى ينتهي الأمر إلى الطَّلاق والفراق. إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال الآباء والأمَّهات يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج. وأخيرًا: فإنَّ من أعظم أسباب كثرة الطَّلاق الاستعجال في الطَّلاق من قبل الأزواج.. فيا من يريد الطَّلاق، اصبر فإنَّ الصبر جميل، وعواقبه حميدة من الله العظيم الجليل. يا من يريد الطَّلاق، إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أيامًا، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعوامًا. يا من يريد الطَّلاق، انظر إلى عواقبه الأليمة ونهاياته العظيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدد شملها وتفرَّق قلبها بسبب ما جناه الطَّلاق عليها. يا من يريد الطَّلاق، صبر جميل، فإنَّ كانت المرأة ساءتك فلعل الله أن يخرج منها ذرية صالحة تقر بها عينك، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أن تَكْرَهُواْ شيئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خيرًا كَثِيرًا} (19) سورة النساء، قال: (هو الولد الصالح). المرأة تكون عند زوج تؤذيه وتسبّه وتُهينه وتؤلمه، فيصبر لوجه الله ويحتسب أجره عند الله، فما هي إلا أعوام حتَّى يقرّ الله عينه بذرية صالحة، وما يدريك فلعل هذه المرأة التي تكون عليك اليوم جحيمًا لعلها أن تكون بعد أيام سلامًا ونعيمًا، وما يدريك فلعلّها تحفظك في آخر عمرك. اصبر فإنَّ الصبر عواقبه حميدة، وإن مع العسر يسرًا. ولهذا فقد جاءت الشريعة بالأمر بعدم الاستعجال بالطَّلاق، فإذا شعر الزوج بنفرة زوجته منه وعدم انقيادها لحقه، فقد أمره الله أن يعالج ذلك بالحكمة واتخاذ الخطوات المناسبة فقال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فإنَّ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سبيلاً إن اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء. كل هذه الإجراءات يتخذها الزوج مع زوجته دون تدخل من أحد خارجي فإنَّ استمر الشقاق فقد أمر الله تعالى بالتدخل بينهما لإصلاح الأمر، فقال جلّ شأنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حكمًا مِّنْ أهله وَحكمًا مِّنْ أَهْلِهَا أن يُرِيدَا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} (35) سورة النساء، فأمر سبحانه عند تطوّر الخلاف بين الزوجين بتشكيل هيئة للنظر في إزالته، تتكون من عضوين يتحليان بالإنصاف والعدل، أحدهما من أسرة الزوج، والثاني من أسرة الزَّوجة، يدرسان ملابسات الخلاف ويأخذان على يد المعتدي، وينصفان المعتدى عليه ويسويان النزاع. كل هذه الإجراءات لإبقاء عقد النكاح واستمرار البيت المسلم. فإنَّ لم يُجدِ كل ما سبق وكان بقاء الزوجية ضرر على أحدهما من دون مصلحة راجحة، فقد شرع الله الفراق بينهما بالطَّلاق. فالطَّلاق هو آخر المراحل، وهو في مثل هذه الحالة رحمة من الله يتخلص به المتضرر ويتيح له الفرصة للحصول على بديل أحسن قال الله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاً مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ واسعًا حَكِيمًا} (130) سورة النساء. كذلك أمرت الشريعة الزوج بأن يطلق طلاقًا شرعيًّا سنيًا، ولا يستعجل فيطلق طلاقًا بدعيًا محرمًا، يقول تعالى: {الطَّلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاك بِمَعْرُوف أو تَسْرِيح بِإِحْسَان} (229) سورة البقرة، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبيّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) سورة الطَّلاق، يعني طلقوهن وهن طاهرات من الحيض من غير أن يحصل جماع في هذا الطهر. فبيّن سبحانه في الآية الأولى العدد المشروع في الطَّلاق وهو طلقة واحدة. وبيَّن في الآية الثانية الوقت الذي يجوز فيه الطَّلاق، وهو وقت الطهارة من الحيض بشرط ألا يكون قد جامعها في هذا الطهر. فتبيّن بهذا أنّه يحرم على الزوج أن يطلق زوجته ثلاثًا، لأن هذا يسد عليه باب الرجعة، وأنه يحرم عليه أن يطلقها وهي حائض، لأن هذا يطيل العدة على الزَّوجة، ويحرم كذلك تطليقها في طهر جامعها فيه، لأنّها ربَّما تكون قد حملت فيشتد ندمه ويكثر الضرر. وبهذا يتبيّن أن الشارع أباح الطَّلاق في حال الحاجة إليه ووضع له نظامًا يجعله لا يقع إلا في أضيق الحدود، بحيث لا يحصل منه ضرر على أحد الطرفين. وبهذا تعلم أن الطَّلاق الذي يقع على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله الذي يسميه العلماء الطَّلاق السني يكون بأن يطلقا طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتَّى تنقضي عدَّتها . والطَّلاق المحرم، يقع فيه كثير من المسلمين بسبب جهلهم بأحكام الطَّلاق، ويكون بأن يطلقها ثلاثًا بلفظ واحد أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبيّن حملها. كل هذا يعد من الطَّلاق المحرم الذي يأثم فيه صاحبه لو فعله. وبهذا نعلم أن من التزم بالشريعة سلم من كثير من المشكلات، وعاش حميدًا. وفق الله الجميع لكل خير.