عندما يدلف صوت خالتي من الباب لزيارة أمي شبه اليومية تدخل معه نسمة فرح عليلة إلى قلبي، تجعلني أرتب هندامي، وأمشط خصلاتي، ثم أتسلل من غرفتي كلص مألوف متعمدة المرور من أمامهما لأعطر أنوثتي برائحة الكلمات التي تطلقها خالتي عندما تشاهدني بقولها «لقد أصبحتِ عروسة يا سلمى».. وأخرى «هنيئاً لمن سوف تكونين من نصيبه». عندها تحمر وجنتاي فرحاً وخجلاً معاً وأنا أواصل سيري إلى المطبخ بخطوات تلك الحيلة المتكررة في كل زيارة متحججة بصنع فنجان قهوتي الخاصة. أدخل إلى جوف المطبخ بعدما أعلق مسامعي على حافة الباب؛ لتسترق السمع لحديثهما الذي يطوف بي في جميع الاتجاهات وشتى المجالات، قبل أن يمنحني فرصة اصطياد ذلك السؤال الذي تدلقه أمي على مسامع خالتي في كل زيارة بسؤالها عن أخبار ابنها سالم المبتعث لإكمال دراسته بالخارج. عندها يندفع جسدي بطريقة كهرومغناطيسية إلى حافة الباب ليتلذذ بالإجابة وهي تقول «لقد اتصل قبل يومين وهو بألف صحة وعافية، ويبلغكم جميعاً سلامه وأشواقه». حينها يتدثر قلبي بنشوة الفرح؛ فأحمل فنجان قهوتي عائدة إلى غرفتي أتربع على حافة سريري، وارتشفها بهدوء تاركةً خيالي يسبح في فضاء الأمنيات. فتارة يبدو لي سالم وهو يجتاح الصفوف على جواد أبيض ليختطفني من بين الجموع، وتارة تنعكس ملامح وجهي الغض على دبلة الخطوبة وأنا أنسج بإبرة الأحلام علمي المخملي معه. لكن الأيام كانت تحمل بين طياتها عكس ذلك؛ لتصفعني في تلك الليلة بكف المفاجأة المفجعة، حينما كنت أمارس حيلتي لسماع أخباره، فإذا بتنهيدة تخرج من قاع قلب خالتي قبل أن تقول «لقد اتصل قبل يومين، وفاجأني برغبته في الزواج من إحدى الطالبات، وهي مبتعثة للدراسة معه بالخارج، وعندما حاولت ثنيه وكبح جماح رغبته كان مُصراً على ذلك متحججاً بأنها من بيت ذي حسب ونسب وعلم، ومن المتفوقات على زميلاتها، وقد حدد مع والدها موعد الخطوبة في الإجازة القادمة». عندما أنهت خالتي حديثها كان جسدي يتصبب عرقاً. حملتُ فنجاني وأبخرة الألم تتصعد من قلبي عائدة إلى غرفتي أحاول الوقوف على ذكرياتي معه فأجدها كالرمال المتحركة، كلما حاولت حرث ذاكرتي لعلني أجد كفناً يغلف ذنبه أو قطعة ذكرى أمحو بها مرارة الفاجعة.. أُسائل الأيام على مهل: أيعقل أن تكون الغربة قد غيرته لهذا الحد، وكبرت أحلامه وطموحاته؟ رحت أتأمل مرة أخرى وكأنني أرفض الإيمان بما حصل، أو ربما أرفض أن أعترف بأن يكون ذاك هو سالم الذي ظل طوال الأسبوع الأول من التحاقنا بالمدرسة يجهش كل يوم بالبكاء منذ خروجنا من المنزل حتى وصلنا للمدرسة، وأنا تارة أحمل عنه حقيبته، وتارة أضع في يده قطعة حلوى لعلها تقطع بكاءه. أيعقل أن يكون هو ذاك الذي عندما جاء لتوديعنا ليلة سفره للخارج دسَّ بطريقة خفية تلك الورقة الصغيرة بعد أن كتب عليها «استودعك الله يا سلمي.. لن أنساك أبداً» وأنا أتلصص عليه من خلف الباب شبه المغلق بينما هو يرمقني بنصف نظرة. يا تُرى، ما الذي أوصله إلى هذا العبث بمشاعري في الوقت الذي توقعت فيه كل المفاجآت إلا أن تكون تلك هي مفاجأتي التي أذهلتني وجعلتني أنهار أمام تلك السنين التي انتظرتها، تلك الأحلام التي رسمتها على لوحة هو من صنعها؛ لتصبح علامات الاستفهام بها كبراكين بحرية في أعماقي. عندها قررت أن أنفض يدي من تراب قبره، وعدت إلى عالمي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، لا أملك سوى دمعة لا أستطيع إرسالها، وزفرة لا أستطيع تصعيدها، أخيط جرحي بإبرة ضوء في قاع فنجان قادم. الرياض 2014م